مساحة إعلانية

بلا عنوان

عاطف عبدالعزيز عتمان نوفمبر 27, 2021
الأم


بلا عنوان 

مضتْ أربعينَ لمْ يفارقني فيها الصوتُ، ولا غفتْ عيني عنْ ملامحها ، وفشلتْ كلَ محاولاتِ الهروبِ منها إلا إليها . أنها أميٌ التي أبكاني رحيلها عليها وعلى أبي . 
أربعينَ تلاشتْ فيها الروحُ وجفتْ المدامعُ ، وفقدتْ التذوقَ ، وضاعتْ معالمُ الألوانِ ؛ ففقدتْ التمييزَ ، وتأخرَ الإحساسِ بشعورِ اليتمِ حتى ظهرِ المشيبِ ، وما أصعبَ يتمُ منْ داعبهُ المشيبُ . 
لوعةُ اشتياقٍ تغلفها مرارةُ المستحيلِ ؛ فقدْ عزَ اللقاءُ بعدَ الغيابِ حتى يحينَ موعدُ الارتقاءِ فالارتواء ؛ فمتى اللقاء يا نفسيٌ ؟ 
اشتاقَ لصوتِ نعلها ، لصوتِ تسبيحها ، لصوتِ تعتعتها . 
اشتاقَ لمناكفتها وعراكها بسببِ صومِ تطوعها وإهمالُ الدواءِ . اشتاقَ لنظرةِ عينيها وهيَ تشفقُ على منْ همْ ومنْ مرضٍ أوْ قلقٍ . كانَ يؤلمها ألمي فأظهرَ عكسُ ما أبطنَ وأكتمهُ خوفا عليها وشفقةٍ . ماتَ الألمُ يا نفسيٌ بموتٍ منْ كنتَ أخشى أنْ تتألمَ بسببي . 
كمٌ شغلتني الحياةُ عنْ الجلوسِ بينَ يديها فقصرتْ الوصالَ حتى غابتْ شمسها فأدركتْ قيمةُ المفقودِ يا نفسي . 
أيا أميٌ يا منْ أفنتْ حياتها في جواري ومنْ أجلي كيفَ أبكيكُ وقدْ جفتٍ منيَ المدامعَ ! 
أيا أمي مرتْ جمعة بعدَ جمعة ولا أجدُ صوتكَ يهنئني ويدعو لي بالبركةِ ، وتهلّ الأهلة ولا أسمعُ دعائكَ فأضحى اليومِ عندي كالأمسِ . 
التمسوا الوالدينِ قبلَ الرحيلِ وأشبعوا النظرَ والنفسَ قبلَ فواتِ الأوانِ . 
ربُ ارحمهما كما ربياني صغيرا .

يقول الشاعر عبدالله البردوني 

تـركـتني هـا هـنا بـين الـعذاب و مـضت ، يا طول حزني و اكتئابي
تـركـتني لـلـشقا وحــدي هـنا و اسـتراحت وحـدها بـين الـتراب
حـيـث لا جــور و لا بـغي و لا ذرّة تـنـبي و تـنـبي بـالـخراب
حــيـث لا سـيـف و لا قـنـبلة حـيث لا حـرب و لا لـمع حـراب
حـيـث لا قـيـد و لا ســوط و لا ظـالـم يـطـغى و مـظلوم يـحابي

***
خـلّـفتني أذكــر الـصـفو كـما يـذكـر الـشـيخ خـيالات الـشباب
و نــأت عـنّـي و شـوقي حـولها يـنشد الماضي و بي – أوّاه – ما بي
و دعـاهـا حـاصـد الـعمر إلـى حـيث أدعـوها فـتعيا عـن جوابي
حـيـث أدعـوهـا فــلا يـسمعني غـير صـمت الـقبر و القفر اليباب
مـوتـها كــان مـصـابي كـلّـه و حـيـاتي بـعدها فـوق مـصابي
***
أيــن مـنّي ظـلّها الـحاني و قـد ذهـبـت عـنّي إلـى غـير إيـاب
سـحـبت أيّـامـها الـجرحى عـلى لـفـحة الـبيد و أشـواك الـهضاب
ومـضت فـي طـرق الـعمر فـمن مـسلك صـعب إلـى دنـيا صـعاب
وانـتهت حـيث انـتهى الـشوط بها فـاطـمأنّت تـحت أسـتار الـغياب

***
آه " يــا أمّـي " و أشـواك الأسـى تـلهب الأوجـاع فـي قـلبي المذاب
فـيـك ودّعــت شـبابي و الـصبا وانـطوت خـلفي حـلاوات التصابي
كـيـف أنـسـاك و ذكـراك عـلى سـفـر أيّـامي كـتاب فـي كـتاب
إنّ ذكـــراك ورائــي و عـلـى وجـهتي حـيث مـجيئي و ذهـابي
كــم تـذكّـرت يـديـك وهـمـا فـي يـدي أو فـي طعامي و شرابي
كـــان يـضـنيك نـحـولي و إذا مـسّـني الـبـرد فـزنـداك ثـيابي
و إذا أبـكـانـي الـجـوع و لــم تـملكي شـيئا سـوى الـوعد الكذّاب
هـدهـدت كـفـاك رأســي مـثلما هـدهـد الـفجر ريـاحين الـرّوابي
***
كــم هـدتـني يـدم الـسمرا إلـى حقلنا في ( الغول ) في ( قاع الرحاب )
و إلــى الـوادي إلـى الـظلّ إلـى حـيث يـلقي الـروض أنفاس الملاب
و سـواقـي الـنـهر تـلقي لـحنها ذائـبا كـاللطف فـي حـلو الـعتاب
كـــم تـمـنّينا و كــم دلّـلـتني تـحت صمت اللّيل و الشهب الخوابي

***
كــم بـكـت عـيـناك لـمّا رأتـا بـصري يـطفا و يطوي في الحجاب
و تـذكّـرت مـصـيري و الـجوى بـين جـنبيك جـراح فـي الـتهاب
***
هــا أنــا يـا أمّـي الـيوم فـتى طـائـر الـصـيت بـعيد الـشهاب
أمــلأ الـتـاريخ لـحـنا وصـدى و تـغـني فـي ربـا الـخلد ربـابي
فـاسمعي يـا أمّ صـوتي وارقـصي مـن وراء الـقبر كـالحورا الـكعاب
هــا أنــا يـا أمّ أرثـيك و فـي شـجو هـذا الشعر شجوي و انتحابي

مشاركة
مواضيع مقترحة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ واحة الأريام