سخونة العبرات ما تلبث أن تبرد.
كنت أشيع أحد الأصدقاء منذ سنوات وقد ترك أطفالا صغارا وكانت فاجعة رحيله تزلزلني وخاصة أنه كان بيننا عيش وملح كما يقولون واحتضر على يدي وأثناء ذهابنا لمسقط رأسه بالمحلة لنسكنه الثرى والعبرات ساخنة، فإذا بأحد العقلاء (اتضح لي عقله فيما بعد بينما استهجنت فعله في وقته) يبحث عن تأكيد حقوق اليتامى ويحل رقبة الراحل من بعض الديون.
كانت وجهة نظره أن سخونة الدموع إن بردت حضرت الدنيا بطمعها وقل التعاطف وأحيانا تضيع الحقوق بين براثن الطمع.
الشاهد في الموقف أنني أدركت فيما بعد حكمة هذا الرجل، فسرعان ما تموت العظة وتدفن وتبقى الدنيا لأهلها يتكالبون عليها.
غياب الحقيقة في مشهد من أوضح مشاهدها..
العبرات ساخنة والأفكار تهاجم من كل صوب، مشاعر الإنسانية متدفقة بسبب لوعة الفراق والنظر لأهل الراحل والأحباب وخاصة إن وجد أطفال صغار، وحالة وعظ صادقة لكنها غير عاقلة، أما صدقها فلخروجها من القلب متأثرة بالمشهد، وأما قلة عقلها فلغيابها عن حقيقة المشهد وعظا للذات بموعد حتمي البلوغ تشهد عليه الحقيقة الماثلة أمام الأعين، لكنه مجهول الموعد والكيفية.
لا إنكار لهذه الحقيقة الماثلة ولكنه طول الأمل وعذب الأماني مما يجعل المشهد يمر ببعض المشاعر والعواطف التي ما تلبث أن تخمد جذوتها مهما كانت محبة صاحب المشهد أو درجة قرابته.
هل تبت؟
هل رددت مظلمة؟
هل وصلت قاطع؟
هل وقر في قلبك أنك من الممكن أن ترحل الليلة بل الساعة بل وأنت شاهد المشهد الآن؟
سأتوب، سأرد المظالم، سأحج، سأزوج الأولاد، سأسافر وأحقق الأماني، سا...... وفجأة يسقط حرف السين.....
متى يسقط حرف السين؟
إنها مأساة الإنسان وبعد إنتهاء زمن الإجابة وسحب ورقة الأجوبة وفي وقت التصحيح يصرخ، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت.....
كلا....
انتهى.....
حقيقة بين طيات حزنها فرح وبين ثنايا الآلام يكمن الأمل.
هذه الحقيقة الثابتة وإن عظم خطبها، وأدمعت العيون وزلزلت القلوب ورققت المشاعر، إلا أنها تظل حقيقة بين طيات حزنها فرح وبين ثنايا الآلام يكمن الأمل.
إن هذه الحقيقة هي شفاء المرضى وزوال الكبد وقرة عين المظلوم، إنها التفسير العقلي والمنطقي لمبدأ العدل الإلهي، حيث يعقب الإمتحان ابتلاءا مرحلة هدنة، يعقبها إقامة ميزان العدل فتوفى كل نفس ما كسبت.
لا معنى للحياة إلا بالموت فهو الحياة حيث يحجز كل ممتحن مكانه في صفوف المكرمين أو المهانين، وتأخذ كتابك وتقرأ جوابك في ظل الشعار الأوحد حينئذ وهو لا ظلم اليوم.
إن الموت هو التفسير وهو العزاء لهذه الرحلة حيث تنتهى معاناة الإبتلاء بما فيها من أقدار، ينتهي الفقر والمرض والألم والصراع والظلم لتبدأ حياة أنت قدرها، وأنت من كتب حروفها وحدد مسار الشقاء والسعادة فيها.
بعيدا عن الإيمان النصي النقلي فإن العقل يذعن ويسلم بهذا اليوم الذي تنصب فيه الموازين فتستقيم للحياة معناها.
ليست هناك تعليقات: