كنت في المقابر
كانت الأريام تتفحص تلك الشجرة القديمة العجيبة تري شرايينها تحمل كل فصائل الدماء، دماء الظالم والمظلوم، دماء القاتل والمقتول، دماء السادة والعبيد ، ومع أنها تنبت في تربة تجمع من الأبيض الجيري حتى الأسود الطيني وتشرب من مختلف فصائل الدماء ، فإذا بأوراقها وفروعها تتمايز حتى حوت كل الثمار والأشواك والألوان في شجرة واحدة جذرها واحد ومع ما تحمله من مختلف الأشكال لا تخلو من العصافير وهي تعزف اللحن .
كيف تستوي كل الدماء في هذه الشجرة العجيبة من بغى مع من اتقى، من عاش للتسعين مع سليب الثلاثين؟
المشيعون منشغلين منهم غارق في الدموع ومنهم من يرتب مراسم العزاء ليليق بأبناء الكرام ومشغول بنوع وفخامة المعزين ، وصوت المقرىء الذي لا ينبغي أن يقل عن مقرىء الكبار، ومنهم المشغول بالميراث الغائب عنه حقيقة الموروث ، وقليل منهم يبكي نفسه على موعد لا يعرفه وهو آت لا محاله وغدا تبكيه العيون .
تابعت الأريام هذا الحذاء اللامع المميز وهو يطأ أرض المقابر المرتفعة بحطام الأسلاف دون أن يهتز بل يسير بخيلاء وتجبر غير مكترث بما يسير عليه وإليه!!!
قلوب موات لم تعد تدرك معنى للموت إلا مراسم وحلقة من حلقات الحياة وجزء من ديكور الغرور ، وقلوب تهتز للحظات من حقيقة الموت الغائبة خلف طول الأمل وقلوب واجفة من هذا اليوم المعلوم المجهول ومن تلك الخشبة ومن ظلمة تلك الحفرة ومن هذا التربي العجيب الذي لا يهتز له جفن ، ويمارس الأمر بنهم أكل الثريد ، فلقد أصبح الأمر لديه سواء فيغلق الحفرة ويهيل التراب كما لو كان داية تستقبل المولود.
ذهبت معها لزيارة منبتي وجذري المباشر والذي رحل عني مبكرا قبل أن أرتوي منه ، فرأيته في التراب الذي أطأه مضطرا وشممت رائحته في غصون الشجرة ولكنه أصبح عاجزا عن الجواب وكأنه يقول مازال الوقت حتى موعد اللقاء فصبرا يا فلذة الكبد وحبيب الفؤاد .
ليست هناك تعليقات: