د.عاطف عبدالعزيز عتمان يكتب قراءة حول دين الفطرة لجان جاك روسو ..إنسان الطبيعة وإنسان الإنسان ح1 من أريام أفكاري
15 نوفمبر، 2016
دين الفطرة أو عقيدة القس من جبال السافوا عمل للكاتب
والأديب والفيلسوف الرائع جان جاك روسو، الجينفي المولد والباريسي النضوج والرحالة الفكري الملهم، نقله للعربية الأستاذ عبد الله العروي ، وكما يذكر سبب اهتمامه بترجمة الكتاب أن تلك المرحلة القلقة المضطربة التي عاشها روسو في المسافة الفاصلة ما بين عصور الظلام وعصر النهضة في أوربا ربما تماثل تلك الحالة القلقة المضطربة التي يعيشها العالم العربي وأنه ربما من المفيد المقارنة والمقاربة ما بين خط روسو وخط الإمام الغزالي والشيخ محمد عبده وبن رشد وشريعتي وغيرهم من حملة راية الإصلاح والتجديد.
عقيدة روسو عقيدة فطرية متسامحة لأبعد مدى تنتهج البساطة منهجا وقد استهوت الأريام تلك الرحلة وربما شعرت بألفة مع ذلك الرجل الفيلسوف الذي نقض أنقاض الفلسفة وتهاوت عليه السهام من كل الفرقاء المتخاصمين ، فقررت خوض الرحلة بفكرها وعينها وفهمها مسترشدة بشموع روسو في منهجية الإصلاح الديني، وهنا ينبغي التنويه أن تلك القراءة تخص أريام أفكاري في محاولة منها لإثبات أن دين الفطرة واحد وللمقاربة بين ما ذهب إليه رسو وما تراه الأريام في العقيدة الإسلامية الفطرية قبل التمذهب والصراعات الكلامية والجدلية ، ومع أن متابعي روسو يؤكدون أن معرفته بالإسلام سطحية وربما لا تعدو كونها معرفة من خلال بعض المستشرقين إلا أنهم يرون أنه لا يكن عداء للإسلام .
قراءة الأريام هذه قراءة طالب حقيقة يحبو في سبيلها لا يدعي فلسفة ولا تفقها ولا إحاطة علمية بل هو حديث الفطرة يخاطب القلوب العاقلة ، إن أخطأت فلن يخسر من فتح لتلك الرؤية قلبه شيئا أكبر من خسرانه نتيجة أوحال الخطيئة التي تغوص فيها البشرية وليس مطلوبا سوى أن تفتح قلبك لقلبي وتعرض عليه قراءتي دون حكم مسبق فتقبل منها ما ينسجم مع فطرتك.
يميز روسّو بين إنسان الطبيعة الفطري كما أبدعه صانعه وبين الإنسان الآخر صنيعة الإنسان الذي صبغه المجتمع والتعليم وبكل تأكيد سيطر عليه الإعلام وخاصة في عصرنا الحالي الذي أصبح فيه الإعلام السلاح الأخطر على الإنسان وعلى فطرته وأهم وسائل زراعة التطرف والتعصب وتدمير ما تبقى من فطرة البشرية وعذريتها.
أغضب رسّو الفلاسفة ونقم عليه الكهنة لتسامحه العقائدي وعاداه رجال السلطة لثوريته ولم يسلم من سهام الكاثوليك والبروتستانت على حد سواء.
يلخص المترجم مقولات روسو في جملة واحدة
"الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد "
يسعى روسو لتحرير الذهن من الأفكار المسبقة والأحكام المتوارثة سواء كانت تعاليم كنسية أم ما بثّه الفلاسفة الماديون كحقائق مؤكدة وربما هنا نعود للخطاب القرآني للمعاندين الذين لا حجة لهم إلا التقليد واستعباد الموروث لهم بقولهم هذا ما وجدنا عليه آباؤنا!
ربما هنا الوقفة الأولى تجاه استعادة الإنسان فطرته وهي الوقفة التأملية التحررية من قيود الموروث وعرض كل الإشكالات على الوجدان عرضا نزيها دون حكم مسبق ولو خلصت نوايا أهل الطوائف والمذاهب والأديان في التخلص من تلك القيود واتخاذ الحقيقة مذهبا لخطونا أولى الخطوات نحو إنسانية الإنسان الفطرية .
جان جاك روسو ورحلة البحث عن عقيدة وسطية تضمن التوازن بين العقل والوجدان وطمأنينة الفرد واستقرار المجتمع.
ماهو شكل التعبد المناسب لمجتمع يعتقد أنه وجد في علم الماديات بديلا كافيا شافيا عن الدين التقليدي؟
روسو يؤسس للتسامح بعدم فرض الرؤية الخاصة به وبمحاولة عرض الأمور على الوجدان وخوض التجربة بحرية فيؤكد أن القضية ليست إقناعك ولا فرض رؤيته بل ما يطمح إليه هو عرض مكنون قلبه وأن تراجع قلبك.
يناقش روسو التنكر للطبيعة الإنسانية نتيجة الالتزام الكهنوتي والذي يشعل الصراع داخل الإنسان، فما بين فطرة وجدانية وضمير ربما غير معلوم الكنه بالضبط وبين كهنوت يعاند الفطرة ويقيد العقل يشتعل الصراع.
يتكلم روسو عن أن الضمير تابع لقواعد الفطرة والطبيعة ويعاكس كل قوانين البشر وهنا أتذكر القطة والسمكة فإن سرقتها اختفت بها وإن منحت لها أنست بها بجوار المانح في سلوك فطري يؤكد أن الفطرة السوية تنسجم مع كل فضيلة تلقائيا .
* ضعف الموارد أدى للبعد عن الشهوات التي تؤجج الرذائل كذلك يرى روسو وهنا تحضرني مقولة للفيلسوف الراحل الدكتور مصطفي محمود أنه إذا أردت أن تحكم على إنسان فأعطه مالا أو سلطة وانظر تصرفه ، وربما هنا تضح فلسفة الحياة وخلق الإنسان حيث منح العقل والحرية والقدرة ومن ثم يمكن الحكم عليه وفق اختياراته.
* يناقش روسو معضلة أخرى نتيجة ضياع الفطرة وسيطرة إنسان الإنسان الذي أخل بالموازين فتحول البعض لضحية للتعفف لا التهور ، وهنا أستحضر جريمة آل لوط في قومه والتي استدعت إخراجهم بتهمة عجيبة ، ما التهمة؟
إنهم أناس يتطهرون!
ويوسف الصديق يقبع في السجن لأنه قال معاذ الله!
يبدو أن إنسان الإنسان ينتصر على إنسان الطبيعة ويقلب الموازين فيصبح العفاف جريمة يؤاخذ صاحبها والتهور ميزة تجعل من صاحبها في مقدمة الصفوف.
* معضلة قبول الكل أو رفض الكل تجعلك تزهد المعقول بسبب اللامعقول وهنا يتوقف روسو عند إشكالية تتسبب في ضياع الحقيقة وخلق تبعية لا عاقلة عمياء يلازمها التطرف ورفض الآخر.
يحكي الغزالي الكبير رحمه الله عن معاناته في السباحة بين الطوائف في محاولة استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق في كتابه المنقذ من الضلال انه ارتفع من التقليد إلى الاستفسار، في الوقت الذي سألت فيه الملائكة يعتبر إنسان الإنسان علامة الاستفهام هرطقة!
يسلط روسو الضوء على معضلة أخرى وهي إما قبول الكل أو رفض الكل في منهجية مقيتة تجعلك تترك كل قناعاتك من أجل فرضية مرفوضة أو تقبل الكل بما فيه ما ترفض ، وهنا عندما نخوض في الملل والنحل ونرى الجمود الذي حول الفهم والتأويل لحق مطلق وعليك أن تأخذ الفرقة أو الطائفة بما لها وعليها أو تتركها كلها مما خلق مسوخ تابعة أبعد ما تكون عن التسامح في ظل تعصب لكل شيء إلا الحقيقة ، واحتكار الحقيقة والنجاة وبالتالي السعي لفرض هذا التصور المعصوم على الجميع في حرب ضروس ضد إنسان الطبيعة في مخالفة لفطرة التنوع وفلسفة حرية القرار.
* قضية الشك هي حيرة كل العقول المفكرة ومعضلة المعضلات وما بين شك يقود للمعرفة لشك يقود للتيه ومزيد من الشك تدور الرحى، فالعقل البشري بكل عظمته يبلغ عجزه مداه عندما يقف أمام الكون بل عندما يقف أما نفسه وكما يرى روسو أن الفلاسفة هنا لم يقدموا أي حل بل أُعجب كل منهم بموقفه ودخلوا في أمور العجز عن إدراكها إدراك والصمت حيالها أبلغ من الحديث.
هل يستطيع الإنسان أن يظل هائما في الشك فترة طويلة؟
القضية الأم هي سر الوجود وطبيعة الحياة ولماذا خلق الإنسان وما مصيره ومتى ولماذا تحتجب تلك القوة المسيطرة عن قلب محب لها؟
الإيمان ضرورة ملحة للعقل البشري ليهدأ فخطأه في الإيمان أهون من سباحته طويلا في بحور الشك ، ويبدو أن الإنسان بفطرته يحتاج إلى تلك القوة الخارقة المسيطرة التي يركن إليها وهي الإله الذي اجتمع السواد الأعظم من البشر على وجوده وإن اختلفوا حول كنهه أو الأديان والشرائع.
مع الفلاسفة والملحدين وجدت أطروحات رائعة لا يمكنها إلا الهدم ، فلا يقدم أي منهم تفسير ولا بديل منطقي بل كل القضية تتمثل في الهدم والتشكيك وقوة الهجوم في ظل ضعف الدفاع كما يرى روسو ، وسبق ذات مرة في نقاشي مع أحد أصدقائي اللاأدريين أن طلبت منه أن يحررني من قيود الإيمان ويقدم التصور العقلي والعلمي لكل القضايا التي يطرحها فعجز عن أي طرح إيجابي أو تصور بديل وانبرى في طرح أطروحات الهدم والتشكيك ببسالة فائقة ، وفي أثناء حديثه ذكر أنه مرض فصلى فتعجبت !!
فأجاب أنه فعل ذلك حتى لو كان على خطأ ومات يضمن رضى الإله!
إذا الشك من أجل الشك والاستمرار في التيه مرهق جدا للعقل البشري لدرجة أن تكلفة خطأ الإيمان تصبح أخف من تكلفة التيه.
يرجع روسو تلك المعضلة للعجز والتكبر عن الاعتراف بهذا العجز في ظل صراع الأنوية الغير مسترشدا بضوابط الفطرة والبحث عن الحقيقة.
يتوصل روسو لحل المعضلة بعدم الاهتمام بما لا يفيد معرفته والاهتمام بالمعرفة الضرورية في هذا الوقت وربما يتفق ذلك مع دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
أعرض روسو عن الفلاسفة بعد أن تحولوا لمشكلة وليس إلى حل ولجأ للوجدان وأيضا هذا يتفق مع استفت قلبك وإن أفتوك
، وصل روسو لنتيجة هي أن فلسفته هي الحقيقة وهي ضالته التي يستخدم وجدانه طريقا لتميزها ، وأن ما قبله وجدانه دون تردد فهو حقيقة بديهية وما دون ذلك لا يقره ولا ينفيه بل يتجنبه إن لم يكن خلفه منفعة ثابته ، فلجأ لاستشارة الوجدان عوضا عن متاهات الفلاسفة وعرّف الوجدان بأنه الغريزة الربانية أو نور الضمير محل الإيمان ومرشد العقل ، يكون انطباع أولي ومن ثم يقارن بين الآراء المتعارضة دون قيود الرأي المسبق .
هل الحقيقة في الأشياء أم في نظرة الإنسان إليها ؟
هذا ما نتابعه في الحلقة القادمة باذن الله .
ليست هناك تعليقات: