حكاية مصرى ..متوفرة بأكشاك ومقار جريدة الجمهورية
إسم الكتاب ..حكاية مصرى
النوع...روايةالمؤلف ..د.عاطف عبدالعزيز عتمان
المقدمة ..الأديبة والشاعرة أميرة الرويقى
الناشر...دار الجندى للطبع والنشر
الطبعة الأولى ...يونيو 2013
الغلاف..محمد عاطف
رقم الإيداع ..11930
رقم الترقيم الدولى ...0-741-90-977-978
الفصل الثالث
.الرحيل
بدأ الليل يجر ستائر الظلام ..
وبدأ الخيط الأبيض يمارس السيطرة على الخيط الأسود لينبئ بقرب حلول الدفء النسبي من أشعة الشمس الشتوية ..
وها هو الديك يصيح ليكتب بداية صفحة جديدة فى كتاب الحياة وينهى صفحة مضت وأصبحت رقما فى سجل التاريخ الحافل بالصفحات ........
الحاجة فاطمة هي أول من يستيقظ فى البيت مع آذان الفجر وظهور الخيط الأبيض الأول للنهار.
تجلس على السرير وتوقظ الحاج منصور ..
الفجر يا حاج ..
وتبدأ الحياة تدب فى المنزل ومن ثم فى القرية ..
يذهب الحاج منصور للجامع ليصلى الفجر فى المسجد بعد أن توضأ بالماء الذي سخنته له زوجته على وابور الجاز ....
تتوضأ الحاجة فاطمة مما تبقى من ماء وضوء زوجها ..
تصلى الفجر وتكنس البيت وتفرغ الأواني من آثار ماء المطر المتسرب من سقف المنزل
وتخرج لحظيرة الطيور فتطعم الطير ثم تدخل حظيرة الماشية فتحلب الجاموسة وينهمر اللبن فى الطاجن الفخاري ثم تأخذ من الحليب ما يكفي الإفطار ويبقى طاجن اللبن ليوضع فى الغرفة الطينية الصغيرة المحكمة الغلق والمخصصة لحفظ اللبن حتى يتحول للبن الرايب
وتطفو القشطة على سطح الطاجن ويتم نزعها ..يحتفظ بجزء منها ويتم تحويل الباقي إلى زبد فلاحى طازج ..
وتشرق الشمس بأشعتها الذهبية ويعم شيء من الدفء فى أعقاب ليلة باردة شديدة البرودة....
توقظ فاطمة مصري وتدعوا زوجها لتناول الفطور
تضع الفطور على الطبلية الخشبية المستديرة
- ويبدوا أن عبقرية الفلاح المصري هي من إخترعت الطاولة المستديرة -
والفطور عبارة عن كوب من اللبن الطازج و طبق من القشطة وطبق من المش والجبن القديم الذى أكله الملح فى الزلعة
.-والزعلة هي ذلك الإناء الفخاري الذى يتم وضع الجبن فى المش بداخله -
وبعض أرغفة من العيش المخبوز يدويا فى ذلك الفرن الطيني العجيب الذى يضفى مذاقا على الطعام لا يوصف بالكلمات ولا تجد إلا كلمة اااااااالله تجرى على لسانك وأنت تلتهم ما يخرج من هذا الفرن .
تلك الكلمة التي تنطلق تلقائيا عقب تزوق أي طعم مميز أو عند رؤية جميل اااااااالله ..
وتبدأ مشكلة كل يوم فمصري لا يحب اللبن والأم تصر على تناول كوب اللبن وتكره سماع كلمة لا أحب اللبن.. تخشى على حد فهمها زوال النعمة وتطالب صغيرها أن يقول بدلا من ذلك اللبن هو الذي لا يحبني ....
لم تكن هناك ألفة بين مصري وبين كوب اللبن سواء كان اللبن هو السبب أو مصري هو المسؤول ..
يلبس مصري ملابسه ويأخذ عشرة قروش ويذهب لكتاب الشيخ حسن ليسير خطوة فى سبيل تحقيق حلم والديه بحفظ القرآن ...
وكعادة أهل الريف فى هذا الوقت يعتبر الكتاب هو الخطوة الأولى للتعليم ويعتبر القرآن هو الدرة التي تزين جبين العائلة التي يوجد فيها حافظ للقرآن ..
الشيخ حسن ...
صاحب الوجه النحيف والقامة القصيرة واللحية الخفيفة البيضاء والملامح الصارمة ..
شيخ كتاب القرية ومحفظ القرآن يبلغ من العمر ما يقارب عمر والد مصري ...
كان مشايخ الكتاب والمدرسين فى ذلك الوقت يعتمدون على العصي والتخويف والفلكة ..
و الفلكة قطعة أسطوانية من الخشب مربوط حبل فى طرفيها يتم إدخال رجل المذنب مابين الحبل والخشبة ويتم لي الحبل حتى يحكم القبضة على الرجل وتعتصر الرجل بين الحبل والخشبة ويبدأ الضرب بالعصي .....
والحبل حبل تيلي خشن. ربطه على القدم عقابا فى حد ذاته .
الشيخ حسن كان يملك فلكة كبيرة وعصى غليظة ...
وكانت العشرة قروش تشترى قرطاس من لب عباد الشمس أو قطعتي حلوى أو إصبعي طباشير للكتابة على سبورة الكتاب ...
حفظ مصري قدر كبيرا من القرآن قد يصل للنصف أو يزيد...
وكان أجر الشيخ حسن خمسون قرشا فى الأسبوع تسمى الخميس نسبة ليوم الخميس الذى يحصل فيها الشيخ على الأجر ..
وفى يوم من أيام الخميس أخذ مصري الخمسون قرشا.. خميس سيدنا ..-وسيدنا لقب يلقب به الشيخ المحفظ - ولم يذهب للكتاب وظل يلعب حوله ويركب المراجيح حتى أنفق الخميس
وأخبر بعض الأطفال الشيخ حسن بما يفعله مصري فأرسل كتيبة من الأطفال حملوه عنوة على الأعناق إلى الشيخ الذي أعد العصي الغليظة والفلكة وتم لف الحبل حول قدم مصري وأكل علقة لم يأكلها حرامي فى مولد لدرجة أن أقدامه لم تعد قادرة أن تطأ الأرض من التورم والألم ..
وكان هذا اليوم يوم قطيعة مع الكتّاب لسنوات وسنوات.
أخطأ مصري ولكن العقاب كان مؤلم وقاسى بدرجة كبيرة ....
كان مجتمع القرية فى ذلك الوقت مازال متمسك بالتقاليد الريفية والتواصل المجتمعي والتكافل و التراحم فى الكوارث والنوازل وكان أيضا يعانى من الجهل والسحر والشعوذة والعصبية وهضم حقوق النساء وخاصة فى المواريث ...
مرت ليالي وأيام وجاء العيد الأضحى المبارك وكان الحاج منصور حريص على ذبح الأضحية عقب صلاة العيد وأن الفطور يكون بعد الإنتهاء من توزيع اللحم على الفقراء والأقارب والجيران وأن يكون بجزء من كبد الأضحية ...
لبس مصري لبس العيد الجديد وكان فى غاية السعادة وأخذ يحوش فى العيدية من الأهل والأقارب ..
ونقود العيد من الربع والنصف جنيه والجنيه و كانت جديدة ومغرية ....
إصطحب الحاج منصور مصري لزيارة الجيران والأقارب والتهنئة بالعيد
وإشترى مصري الحلوى والبالونات وكان يوما سعيدا زار خلاله إخوته و أعمامه و أخواله و كل الجيران و الأقارب ....
وفى عصر يوم العيد توفى أحد الفلاحين وكان هناك مسعود
مسعود...
شخص نحيف بارز عظام الوجه خفيف شعر الرأس ولكنه يملك حنجرة خصائصها لا تتناسب مع مظهره إطلاقا كل طموحة شيء مفقود أو مناسبة عامة أو حالة وفاة ينال من خلالها عملا يدر عليه بعض المال ليسد به إحتياجاته اليومية ..
مسعود هو منادى القرية يمر فى شوارعها بصوته الجهوري راكبا حماره الأبيض النحيف ويضع يده اليمنى على أذنيه لربما ليضبط إيقاع الصوت ليخبر أهل القرية بميعاد أو وفاة أحد أو شيئا مفقودا ....
جاء عصر يوم العيد لينادى مسعود على وفاة أحد أهل القرية وأن الجنازة ستكون بعد صلاة المغرب ......
وكعادة الريف آنذاك تجمع كل أهالي القرية عقب صلاة المغرب لدفن المتوفى وكل يحمل لمبة جاز أو كلوب وهو جهاز إضاءة يعمل بالجاز أيضا ...
وبعد صلاة العشاء إصطحب الحاج منصور مصري معه للعزاء مع كونه طفلا فى الثامنة ولكنه كان يعامله على أنه رجل ويريده أن يقتحم الحياة ....
مرت أيام وليالي وكان مصري يتمنى لو يكون عندهم تلفزيون بالبيت فكان عدد أجهزة التلفزيون بالقرية معدود على أصابع اليد الواحدة ...
وبعد إلحاح إشترى الحاج منصور جهاز تلفزيون أربعة عشر بوصه أحمر اللون وكان بالنسبة لمصري ذلك اليوم هو يوم العيد الحقيقي ....
يتابع من خلاله مسلسل السابعة وبرامج الأطفال
مرت الأيام والليالي بحلوها ومرها ..بحنينها وأنينها
وجاء يوم فارق فى تاريخ مصري ....!!!!
إستيقظ مصري على صوت منزعج من أمه وفتح عينيه على حالة من القلق والحزن تكسو أرجاء البيت. وإخوته وبعض الأقارب موجودين ..
علامات الدهشة والإستغراب كست قسمات وجه مصري وأسرع إلى أمه متسائلا فيه إيه ؟
أجابت الأم أبوك تعبان والدكتور عنده فى الغرفة ...
نزلت الكلمات كالصاعقة على نفس مصري وسبب الصاعقة ليست كلمات الأم ولكنه القلق والحزن الذى يطل من وجوه من بالمنزل وكأن الأمر خطير وليس مجرد عرض بسيط
خرج الطبيب من الغرفة وإصطحبه خالد الأخ الأكبر لمصري وخرج معه ودخل مصري الغرفة فى لهفة وشوق يسارع الأنفاس
فالنائم على السرير بالداخل ليس الأب بالنسبة لمصري لكنه الحياة بكل معانيها ...
تلقف الأب صغيره بنظرة حانية وهو نائم على السرير وعلامات التعب والإرهاق ظاهرة على وجهه
جلس مصري إلى جوار رأس أبيه يقبله وتدمع عيناه ويرى شبح الفراق يراود خياله ويتذكر مداعبة أبيه له عندما كان يذكر أنه سيموت ويتركه كان مصري يصرخ سأمسك بخشبة النعش وسأدخل القبر معك .........ياااااااااااااالله
ما أقساها من لحظات لا تمر ...
وما أشد إعتصار القلب من شدة الألم ..
خلا البيت من الناس بعد أن رجع خالد بالدواء ولم يتبقى فى البيت سوى الأب الذى أوشك الرحيل والطفل الذى يفوق الحدث قدرته على التحمل والإستيعاب ..
والأم الباكية على الحائط الذى يوشك أن يهدم ..
تبكى على من ينوى الرحيل وتبكى الصغير ومستقبله الملغوم ..
ونادي الحاج منصور على مصري فجاءت الزوجة فطلب منها أن تحضر مصري وفقط ...
جاء الجسد ممثلا فى مصري مسرعا لتلبية نداء روحه الممثلة فى أبيه ..
نعم روحه فقد كان أبيه كل شيء بالنسبة له
طلب منصور من مصري أن يسنده حتى يدخل الحمام ..
سند مصري أباه وكان له السند الأخير فى اللحظات الأخيرة حتى دخل الحمام وتبول وهو واقف وأرجله لا تكاد تحمله ويداه ترتعشان وجسده ينتفض ووجهه مصفر ويكسوه العرق ..
بكى مصري على حال أبيه وإشتد البكاء وعلا النحيب .
نظر الأب لصغيره بحنان المهاجر قهرا وقسرا عن الأحبة وطبطب عليه بحنان لو وزع على الخلائق لكفاهم ونطق كلمته الأخيرة ...
أبى اللسان بعدها إلا أن ينعقد ويسكت عن الكلام ...
قال لا تبكى فأنت رجل وخلى بالك من أمك ..
كانت الكلمات الأخيرة فى عمر تجاوز الرابعة والسبعون عاما
كانت الوصية والنهاية وعقد اللسان بعدها وتوقف عن الكلام وكانت الجملة الأخيرة بمثابة كل الكلمات
وكانت تلك الكلمات هي نهاية مرحلة طفولة مصري ...
مكث الحاج منصور ثلاثة أيام معقود اللسان على فراش الموت يصارع الرحيل ..
يطلبه عزرائيل ويلح عليه ويقول حان وقت الرحيل والأب يتشبث بالحياة من أجل صغير يهواه
ويخشى عليه الأمواج فى بحر الظلمات ويخاف الذئاب فى ليل الغيطان..
روح الأب تنزع شيئا فشيئا والقلب ينبض متمسكا بالحياة ..
ولكن هيهات هيهات....
فعزرائيل لا يقبل الأعذار ولا يرق قلبه للأطفال وليس بإستطاعته تأخير ما كان قد قدر على العباد ...
أشفقت الأم والأقارب على الصغير من هول الفاجعة فنقلوه لبيت أحد إخوته بعيدا عن حالة أبيه ...
مرت ليلة طويلة على الحاج منصور وأطول على مصري وأشرقت الشمس من يوم الجمعة الأخيرة من شهر سبتمبر سنة 1991 .
أشرقت حمراء باكية تتساقط دموعها على جنبات الكون ويسمع أنينها القاصي والداني أو هكذا رآها مصري ...
كان هذا اليوم يومه هو
وكانت الشمس شمسه هو وكان كل الحزن والألم ملكه هو .
وفجاءة ظهر صوت مسعود وما هو بمسعود
بل هو فى هذا اليوم متعوس بتعاسة ألحقها بالقلب الأخضر الذى إصفر وشاخ قبل الأوان بأوان ...
نادي مسعود بوفاة الحاج منصور ..
وتحجرت الدموع فى عيني مصري ووقف متصلبا حيران ما بين نفسه التي تئن و تصرخ .
وقلبه الذى يقطر الدم وينفطر من الحزن وأوصاله التي ترتعد و ترتجف
وما بين الوصية والجملة الأخيرة لأبيه الراحل الباقي ..
الراحل من دنيا الراحلين الباقي فى نفوس العاشقين وأولهم وأولاهم مصري
--قال لا تبكى فأنت رجل --
تلك الجملة المفتاحية التي شيبت قبل المشيب وأنهت مرحلة قبل أوانها وبدأت بأخرى مبكرا عن موعدها ...
وقفت الدمعة حائرة فى عين مصري تأبى النزول فتخالف الوصية
وتأبى الرجوع للعين فتزيد سخونة مشاعره التي تكاد تكوى قلبه ...
ويتحرك اللسان ليحل الإشكالية وينطق مصري
الله يرحمك قلت خليك راجل ولا تبكى فلن أبكيك وسأكون كما عهدت إلى...
الله يرحمك ...
وفاضت العيون المجاورة لمصري من زوجة أخيه والتي سمعت كلماته فهزت القلوب وزلزلت الأرض من تحت الأقدام ودارت الأرض بالجميع
النحيب يعلو والنواح يزداد والأرض تبكى هزة والسماء تظلم فجأة والشمس فى كبدها تنتحب وزادت الشمس من بكائها المكتوم ...
ولكنه القدر المحتوم .
وتابع مصري نعش أبيه من بعيد وهو محمول على الأكتاف ومتجه للسفر الأخير ..سفر بلا عوده ...
وفراق بلا لقاء
والناس ملتفة حول النعش وروح مصري الممثلة فى والده بداخل النعش والمشهد الأخير ونظرة الوداع الأخيرة
لم يتحكم مصري فى عينه ففاضت بالبكاء وإنهمرت الدموع وعلا الأنين وأوشكت الشمس على الغروب وفى عينيها الدمع يسيل ويسيل
ولكنها نهاية كل شروق ...لابد من الغرووووووب
ومن بعد الغروب شروووووووق
ليست هناك تعليقات: