مساحة إعلانية

جغرافيا الروح في 48 خريفًا 8️⃣ مع الشيطان

عاطف عبدالعزيز عتمان سبتمبر 01, 2025



جغرافيا الروح في 48 خريفًا 8️⃣ مع الشيطان.

كما للأرض تضاريسها، فللروح تضاريسها من صحارٍ وجداول. فمع خريطة التجارب الداخلية، والمشاعر، والذكريات، والمعارك التي خاضتها الروح على مدار رحلتها، تتجلى معالم الخريف الثامن والأربعين. وأخطر ما فيه التيه، وأن تظل تدور في دائرة مغلقة تعيد فيها صنع أوهامك كل مرة على أنها حقائق مطلقة، عندها تُسجن داخل معبدٍ بنيته لأوهامك وتظنّه الكون كلّه. فالويل كل الويل لسجينٍ بنى سجنه بنفسه، وبالتالي لا يدرك أنه سجين.

أخطر ما في الرحلة هو أن يكون الشيطان إلهك وأنت لا تدري؛ فالخطر الحقيقي ليس في وجود شيطان خارجي واضح، بل في أن تجعل من هواجسك، أو شهواتك، أو غرورك، أو أيديولوجيتك، أو معتقداتك الزائفة "إلهاً" يُسيرك دون أن تنتبه لذلك. أن تعبد ذاتك من حيث لا تدري!

اللغة وتزييف الوعي

تحمل حروف اللغة مسميات، لكنها تبقى عاجزة عن البيان من ناحية، وتتولى مهمة تزييف الوعي من ناحية أخرى. فاللغة مجرد رموز (حروف، كلمات) تحاول التقاط وتسمية التجارب الإنسانية المعقدة (مثل جغرافيا الروح)، لكنها دائمًا ما تعجز عن التعبير الكامل عن عمق المشاعر والحقائق. هناك هوة بين التجربة الحية والكلمة التي تعبر عنها. أين تلك الحروف التي من الممكن أن تصف الحب لقلوب لم تتذوقه؟!

هنا تكمن المفارقة الخطيرة؛ فرغم عجزها، فإن اللغة هي الأداة الرئيسية التي نشكّل بها وعينا وفهمنا للعالم. وبالتالي، يمكن استخدامها (عن قصد أو دون قصد) لتشويه الحقائق، وخداع الذات والآخرين، وبناء واقع وهمي. فالإعلام، والخطابات السياسية، والشعارات الجوفاء، والمعتقدات الزائفة، وحتى حديثنا مع أنفسنا، يمكن أن تكون وسيلة لتنمية هذا التزييف.

ماهية الشيطان: كيان خارجي أم ذات داخلية؟

توقفت الأريام عند ماهية الشيطان. هل هو كائن شرير بقدرات فوق طبيعية مسؤول عن إفساد العالم وفساد جنس الإنسان؟ أم هو وجه من وجوه الإنسان متمثل في الأنا الزائفة من الرغبات والغرور والأنانية التي اكتسبها الإنسان كنتيجة لانفصاله عن مصدره النوراني، والتي أدت إلى تبني أفكار ومعتقدات عنصرية ومادية صرفة؟ 

هل هو ذلك الشبح الأسود ذو القرون والعيون الحمراء والوجه المخيف، أم أنه قد يكون ذلك المخلوق الذي يرتدي الأبيض بوجه حسن وربما جناحين للطيران؟

الملاك والشيطان صورتان ليس لهما وجود حقيقي إلا ذلك الذي أوجده العقل البشري وفق قانون الثنائيات الذي يحكم هذا العالم. وبالتأكيد، فالصورة رهينة ما تلقاه العقل وما برمج عليه، لذلك ربما من المستحيل أن تتطابق الصور داخل عقلين مختلفين.

في كثير من التقاليد الفكرية والصوفية، "الشيطان" و"الملاك" ليسا كيانين مستقلين بذاتهما خارج الوعي الإنساني، بقدر ما هما رموز أو تجليات لقوى داخل النفس والإدراك. فالشيطان قد يرمز لقوة التمرد والأنانية والغواية والانفصال، بينما الملاك يرمز للطاعة والصفاء والوصال والنور. هما صورتان بناهما الفكر البشري لفهم صراع الخير والشر الذي يجري في داخله أولًا وأخيرًا. يمكن أن نقول أن الشيطان تجسيد للذات الدنيا المنفصلة عن النور، والملاك رمز الذات العليا التي تسعى للاتصال بمصدر النور.

الوعي هو الحل

متى كان الخريف الذي كنت فيه الشيطان، ومتى ذلك الذي كنت فيه الملاك، أم أن الصورتين في الحقيقة وجهان لصورة واحدة؟

الخريف الذي كنت فيه الشيطان هو ذلك الذي مررت فيه وأنا أقرب إلى ظلام أنانيتي، أما الخريف الذي كنت فيه أقرب إلى نور تعاطفي ومحبتي فهو من كنت فيه الملاك . 

السؤال الأهم ليس: من أنا الآن؟ بل هل أنا واعٍ لما أكون؟ لأن الوعي هو الذي يحوّل المسار. 

عندما تعرف أن "الشيطان" قد يكون كامنًا في رغبتك في السيطرة، أو في خوفك من الضعف، أو في تمسكك بفكرةٍ ما، فإنك تبدأ في تحرير نفسك من عبادته.

مشكلة العالم الحقيقية ليست في وجود كيان شرير خارجي اسمه "الشيطان"، بل في الغفلة عن "الشيطان الداخلي" الذي يرتدي أقنعة الفضيلة أحيانًا: قناع الوطنية، قناع الدين، قناع التقدم، قناع الحب. حينها تُرتكب أفظع الجرائم باسم أقدس المبادئ.

النهاية ليست في قهر شيطان خارجي، بل في استيقاظ داخلي؛ في أن ترى الأوهام على حقيقتها، وأن تعرف أن اللغة قاصرة، وأن الخير والشر قوتان تعيشان فيك، وأن المعركة الحقيقية هي معركة الوعي بالذات.

هكذا تكون "جغرافيا الروح": رحلةٌ من الغفلة إلى الوعي، من العبودية للصورة إلى الحرية في المعنى.




مشاركة
مواضيع مقترحة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ واحة الأريام