جغرافيا الروح في 48 خريفًا - 7️⃣- الإيمان مختلف لكن الإنسانية واحدة.
أحيانًا، بعد سنواتٍ من البحث والتجربة، نصلُ إلى مرحلةٍ من الوعي تسمح لنا بالنظر إلى العالم من منظورٍ مختلفٍ تمامًا. منظورٌ لا يرى الإيمانَ وجهةَ نظرٍ واحدة، بل يراه فسيفساءَ من التجاربِ والاعتقاداتِ المتعددة.
أنا قادمٌ من هناك، من قلبِ المعتقداتِ التي تعرفها جيدًا، بل وأكثر. هذا العمق في التجربة منحني القدرةَ على التمردِ على الأفكارِ الجامدة، وفهمِ المشاعرِ التي تكتنفُ هذه الرحلة.
إن الإيمانَ ليس كتلةً واحدةً صمّاء.
الإيمانُ السنّي يختلفُ عن الإيمانِ الشيعي، والإيمانُ السلفي يختلفُ عن الإيمانِ الأشعري. حتى في إطارِ الدينِ الواحد، هناكَ فروقٌ دقيقةٌ وعميقة. الإيمانُ المسيحي يختلفُ عن الإيمانِ الإسلامي، والإيمانُ الكاثوليكي ليس كالإيمانِ الأرثوذكسي، بل حتى الإيمانُ القبطي الأرثوذكسي يختلفُ عن الإيمانِ الرومي الأرثوذكسي.
هذه الثنائية، "إيمانٌ وإيمانٌ مختلف"، هي المخرجُ الحقيقي من دائرةِ الصراعاتِ الدينية. إنها النقطةُ التي يمكن أن نلتقي عندها جميعًا.
عندما أُحِبُّ إنسانًا كونهُ إنسانًا فقط، هذا الحبُ لا يعني أن إيماني هو إيمانه. بل يعني أنني أحترمُ إيمانه وحقّه فيه، دون أن أتنازلَ عن إيماني أو أعتبره هو الأصحُ المطلق.
كان التعصّبُ والكراهيةُ والخرافاتُ جزءًا من دائرتي الدينية والاجتماعية، ورفضي لها اليوم أمرٌ طبيعي، ومن الطبيعي أيضًا أن أرفضَها لدى الآخرين. إن حبي للآخر كإنسانٍ طبيعي، يمتدُ ليشملَ عشيرتي الأقربين، فهم بشرٌ أولاً وأخيرًا وهذا أمر بديهي لا يحتاج تأكيد .
كنتُ أكرهُ الشيعي، وأرفضُ المسيحي وأتعالى عليه، وأقاطعُ الهندوسي. لكن عندما أقمْتُ جسورَ التواصل، اكتشفتُ أنني لم أفقدْ نفسي. بل اكتسبتُ من الشيعةِ أعزَّ الأصدقاء، ومن المسيحيين أنبلَ الرفقاء، ومن الفكرِ الهندوسي عمقَ الشرق. لا أُدينُ أحدًا، ولا أنتظرُ من أحدٍ إلا السلام. ما دمتَ تحترمُ حقي في الحياةِ والاختيار، فأنت أخي، سواءً عبدتَ الله الذي تتصور، أم الحجرَ الذي أتصور.
خرافاتُ الآخرين ليست من أولوياتي، خاصةً إذا كانت تثيرُ البغضاء، لأني ببساطةٍ لا أتأثرُ بها وأراها مجردَ خرافات. أولويتي الحقيقية هي خرافاتي أنا التي تحبسني، وهي تلك الأفكارُ التي نتشبثُ بها دون تساؤل، مثل الخوفِ من الآخر فقط لأنه مختلف، وهي التي تعيقُ نموّي الروحي والفكري.
أنا أقبلُ الآخرَ كما هو، وأحاوره لا لأقنعه، بل لنتعارفَ ونمدَّ الجسورَ بيننا. في هذا الحوار، أسعى لأن ألمسَ عنده عطرًا خاصًا، وأن أكتشفَ نورًا مختلفًا.
عند الآخر رأيتُ فرانسيس الإسيزي يحلقُ ليس فقط في سماء الإنسانية، بل في سماء الأكوان، في فترةٍ كانت فيها الحروبُ الدينيةُ دموية، لكنه رنمَ بالسلام. وكان صوتُ الرومي يبادلهُ الحبَّ في فضاءٍ أوسع من أي منظورٍ ضيّق.
افتحْ النوافذَ يا صديقي، وارفعْ نظارتكَ عن عقلكَ واقرأِ الآخرَ بعينهِ لتعرفهُ. ازرعْ بذرةً في الأرضِ من أجلِ السلام.
هذا هو جوهرُ الفكرة: "إيمانٌ وإيمانٌ مختلف"، مع عدمِ إدانةِ الأشخاص، والسعيِ الدائمِ نحو المشتركاتِ الإنسانية التي تجمعنا.
تلك هي آخر محطات الرحلة على أبواب الخريف ال 48.
ليست هناك تعليقات: