جغرافيا الروح في 48 خريفًا 6️⃣ سقوط الأقنعة.
في جغرافيا الروح، على عتبة الخريف الثامن والأربعين، لم أعُد أجد إلا مساحةً شاسعةً من الصمت. اكتشفت أن كل ما بنيته كان أبراجًا من أوهام، وها هي تتساقط ورقةً ورقة في موسم التساقط هذا.
كل ما كنت أظنه نفسي لم يكن أنا!
كنت أظنّ نفسي أشياءَ عديدة... ظننت أنني اسمي الذي لم أختره، فإذا به مجرد غلافٍ وُضع على كينونتي.
ظننت أنني جسدي الذي ما يلبث كلَّ خريفٍ أن يتغير ويتجدد ويبلى، فهو المركب لا الراكب.
ظننت نفسي أفكاري، فإذا بها تتغير وتتبدل كل خريف، فتسقط لِتَتحوَّل إلى مُخصباتٍ تُغذِّي الجذرَ؛ من أجل ورَقٍ جديدٍ مختلفٍ، يُعيد الدورةَ لكن ليس في دائرة مغلقة، بل في شكل حلزوني: تعود الورقةُ، لكن ليست تلك التي سبقتها.
ظننتُ أنّني مذهبي، فإذا بالمذهب يذوب، وينفتح إلى فضاءٍ أوسع.
ظننت أنني ديني، فإذا بفهمي له يتبدّل خريفًا بعد خريف، كالنهر الذي لا يستقرّ في مجراه.
ظننتُ أنّني ألقابي، من شيخٍ إلى دكتورٍ إلى كاتبٍ مفكّر، فإذا بها كلها أقنعة تتناثر مع الريح وتتركني عاريًا.
ظننتُ أنّني نسبي وعائلتي وقريتي، فإذا بي أرى الخريف يبدّد الصور، ويفتح أبواب الرؤية.
ظننتُ أنّني أسرتي وأولادي وأصدقائي، حتى علّمني الخريف أنّ القريب يهجر، والحبيب يبتعد، والصديق قد يغدر. فتعلمت أن الحب هبة وليس ملكية.
ظننت نفسي ما قرأتُ وما حفظتُ وما تعلّمْتُ في المدارس، وما تمردت وتعلّمته خارجها من كورسات وكتب وخطب ومحاضرات، فإذا بها كلها أدوات شكّلتني لكنها ليست أنا، سقطت كلها كأقنعة في موسم الخريف.
ظننت نفسي ذلك الخطيبَ المفوهَ، الواعظَ النبيهَ والمثاليَّ، الذي يحافظ على صورته المرسومة، وداعيةَ السلام والمحبة والتعايش. وكل ذلك كان للخريف موعدُ سقوطٍ، لأكتشف هشاشة ما خلف الأقنعة.
كنتُ طالبًا مجتهدًا قاسوا قيمتي بالعلامات والتفوّق، فأضاعوا طفولتي، وصادَروا مراهقتي، وصعدتُ درجات السلم ناسيًا أن أُصغي إلى إنسانيتي لأسأل: من أنا؟ وكيف أصبحت؟
في جغرافيا الروح، في مستهل الخريف الثامن والأربعين، اكتشفت أنني لست أيَّ شيءٍ مما سبق... مَن أنا؟
من هنا بدأ التحرر
أنا لا شيء مما توهمته... ولم أعد أرغب في أن أكون شيئًا محددًا.
أنا من أضاع في متاهات الأقنعة عمره، ونسي أن يكتب تاريخه الحقيقي، أو أُنسِيَ ذكره.
لم يعد يذكر من عمره كله إلا يومًا واحدًا: اليوم الذي واجه فيه نفسه لأول مرة، عاريًا من كل شيء، ليبدأ من اللاشيء.
ولكن... من هذا العدم، تبدأ كل البدايات.
من هذا التجرد، تولد رؤية جديدة للوجود. ها أنا ذا، بعد أن كنت لا شيء، أصبحت على أعتاب أن أكون كل شيء: إنسانًا بسيطًا يعيش لحظته، يشعر بوجوده، من دون حاجة إلى قناع أو عنوان.
هذه هي الهوية الوحيدة التي لا يسقطها خريف.
ظننت نفسي أفكاري، فإذا بها تتغير وتتبدل كل خريف، فتسقط لِتَتحوَّل إلى مُخصباتٍ تُغذِّي الجذرَ؛ من أجل ورَقٍ جديدٍ مختلفٍ، يُعيد الدورةَ لكن ليس في دائرة مغلقة، بل في شكل حلزوني: تعود الورقةُ، لكن ليست تلك التي سبقتها.
ظننتُ أنّني مذهبي، فإذا بالمذهب يذوب، وينفتح إلى فضاءٍ أوسع.
ظننت أنني ديني، فإذا بفهمي له يتبدّل خريفًا بعد خريف، كالنهر الذي لا يستقرّ في مجراه.
ظننتُ أنّني ألقابي، من شيخٍ إلى دكتورٍ إلى كاتبٍ مفكّر، فإذا بها كلها أقنعة تتناثر مع الريح وتتركني عاريًا.
ظننتُ أنّني نسبي وعائلتي وقريتي، فإذا بي أرى الخريف يبدّد الصور، ويفتح أبواب الرؤية.
ظننتُ أنّني أسرتي وأولادي وأصدقائي، حتى علّمني الخريف أنّ القريب يهجر، والحبيب يبتعد، والصديق قد يغدر. فتعلمت أن الحب هبة وليس ملكية.
ظننت نفسي ما قرأتُ وما حفظتُ وما تعلّمْتُ في المدارس، وما تمردت وتعلّمته خارجها من كورسات وكتب وخطب ومحاضرات، فإذا بها كلها أدوات شكّلتني لكنها ليست أنا، سقطت كلها كأقنعة في موسم الخريف.
ظننت نفسي ذلك الخطيبَ المفوهَ، الواعظَ النبيهَ والمثاليَّ، الذي يحافظ على صورته المرسومة، وداعيةَ السلام والمحبة والتعايش. وكل ذلك كان للخريف موعدُ سقوطٍ، لأكتشف هشاشة ما خلف الأقنعة.
كنتُ طالبًا مجتهدًا قاسوا قيمتي بالعلامات والتفوّق، فأضاعوا طفولتي، وصادَروا مراهقتي، وصعدتُ درجات السلم ناسيًا أن أُصغي إلى إنسانيتي لأسأل: من أنا؟ وكيف أصبحت؟
في جغرافيا الروح، في مستهل الخريف الثامن والأربعين، اكتشفت أنني لست أيَّ شيءٍ مما سبق... مَن أنا؟
من هنا بدأ التحرر
أنا لا شيء مما توهمته... ولم أعد أرغب في أن أكون شيئًا محددًا.
أنا من أضاع في متاهات الأقنعة عمره، ونسي أن يكتب تاريخه الحقيقي، أو أُنسِيَ ذكره.
لم يعد يذكر من عمره كله إلا يومًا واحدًا: اليوم الذي واجه فيه نفسه لأول مرة، عاريًا من كل شيء، ليبدأ من اللاشيء.
ولكن... من هذا العدم، تبدأ كل البدايات.
من هذا التجرد، تولد رؤية جديدة للوجود. ها أنا ذا، بعد أن كنت لا شيء، أصبحت على أعتاب أن أكون كل شيء: إنسانًا بسيطًا يعيش لحظته، يشعر بوجوده، من دون حاجة إلى قناع أو عنوان.
هذه هي الهوية الوحيدة التي لا يسقطها خريف.
أنا مَنْ ضيَّع في الأوهام عُمْرَه، نَسِيَ التَّاريخَ أو أُنسِيَ ذِكْرَه، غيرَ يومٍ لم يَعُدْ يَذكُرُ غيرَه، يومَ أنْ قابَلتُه أوَّلَ مَرَّه.
(بصوت عبد الوهاب، رحمه الله)
ليست هناك تعليقات: