مساحة إعلانية

جغرافيا الروح في 48 خريفًا _ 12_ الحرية بين الخوف والحب

عاطف عبدالعزيز عتمان سبتمبر 27, 2025

 



جغرافيا الروح في 48 خريفًا _ 12_ الحرية بين الخوف والحب🍁


كنت أتأمل حول مفهوم الحرية. هل يمكن أن أكون حرًا وأنا تحت التهديد والإكراه، سواء كان فوريًا أو مؤجلًا؟
هل التهديد والوعيد، سواء كان مصدره البشر أو منسوبًا إلى الإله، يمنح الإنسان حرية حقيقية؟
في رأيي، هذه ليست حرية، بل هي مناورة تحت التهديد. فالفعل الناجم عن الخوف من عقوبة (دنيوية أو أخروية) هو في جوهره فعل قسري، حتى لو بدا لك أنك اخترته.

وهنا انقسم المتكلمون: فريق يرى أن الحرية الحقيقية تكمن في أن يكون الشعور أو الفكر أو الفعل نابعًا من الحب والامتنان لا من الخوف. وفريق آخر يرى أن الخوف والرجاء هما قوام الدين. وهنا يبرز السؤال: هل يمكن للإنسان الخائف، سواء كان خوفه مبررًا أم متوهمًا، أن يكون حرًا؟

لعلّ ما يتبقى لي هو تلك المساحة الداخلية من الحرية التي تحدث عنها الفيلسوف فيكتور فرانكل، حين قال: "يمكن سلب كل شيء من الإنسان إلا شيئًا واحدًا: آخر حريات الإنسان، وهي أن يختار موقفه من أي مجموعة من الظروف."


تفترض هذه الفلسفة أنك حتى تحت التهديد والوعيد، تظل قادرًا على اختيار كيف تفسّر الموقف، وتستخرج المعنى من المعاناة.
إنها حرية اختيار شعورك تجاه المأساة، لا حرية تجنب وقوعها.
بالتأكيد، هذه الحرية قد تبدو هشة من منظور مادي. قد تكون استسلامًا مقنعًا، أو تسليمًا يتجاوز ظاهر الأحداث. وهذا التسليم يتطلب إيمانًا بكمال كل الأحداث، سواء ما كان ظاهره شرًا أو خيرًا، مع الأخذ في الاعتبار معضلة الخير والشر التي هي أسيرة المعنى الذي يضفيه الإنسان عليها.


أنت لا تختار المأساة، ولكنك تختار نوعية الرواية التي ستقصها على نفسك: هل هي عقاب أم عواقب؟ رسالة للنمو أم معاناة بلا معنى؟
هذا الاختيار الواعي هو قمة حريتك الداخلية التي لا ينازعك فيها أحد.

هل يمكن أن أكون حرًا حين تكون الخيارات محدودة؟
مثل أن يقال لك: "إما عدس أو بصارة، وأنت حر في أن تختار ما تريد!"
من منظور ليبرالي تقليدي، الحرية هي غياب الإكراه. ما دام لا أحد يجبرك على العدس أو البصارة، فأنت حر في اختيار ما يعجبك. ولكن من منظور فلسفي أعمق، هذه حرية وهمية. فالخيارات قد أُعدّت مسبقًا من قبل سلطة ما، وأنت هنا حر في أن تختار ما تم اختياره لك بالفعل. أنت لا تشعر بالإكراه المباشر، بل أنت حر داخل قفص، تختار ما اختاره لك السجان للحفاظ على النظام الذي وضعه.

كمثال على ذلك هل تريد شهادة الثانوية العامة أم البكالوريا؟ وعندما تختار الثانوية العامة، قد يقال لك لا يوجد مكان، ابحث عن مكان آخر!
أو مشهد تخييرك ما بين شاي أم مشروب غازي، وعندما تقول لا أريد شيئًا، يجبرونك على الاختيار بحجة عيب، يجب أن تأخذ شيئًا، فتنتهي باختيار الشاي.
هذه كوميديا مصرية تجاوزت فكرة الخيارات المحدودة إلى كونها اختيارًا واحدًا تُجبر عليه ان حاولت حتى الاختيار من المختار لك .

هل حدث أن فعلت خيرًا وكنت حرًا تمامًا في فعله؟ وهل حدث أن فعلت شرًا وكنت حرًا تمامًا في فعله؟
الحرية المطلقة غير موجودة، لكن الحرية الحقيقية عملية مستمرة. فوجودنا نفسه محكوم بقيود الطبيعة والمجتمع والجسد. ربما تكمن الحرية الحقيقية في الوعي بهذه القيود، والسعي لتوسيع دائرة الخيارات المتاحة بشكل حقيقي، وامتلاك الإرادة والقدرة على الاختيار من بينها بناءً على قناعة شخصية، وليس فقط بناءً على الخوف أو الإغراء.

تواضع قليلًا يا أخي؛ فاختياراتنا عادةً ما تكون محصلة للجينات والموروث والتربية والتلقين وحالتنا النفسية، ما بين مكتسب وموروث.

هناك حرية أخرى عند الصوفية والفلسفات الروحانية، تتطلب تحررك من التعلق بالأشياء. حينها لا ترغب في شيء، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يحرمك من شيء، ولا أن يرغبك أو يهددك. هذه المدارس تجاوزت التهديد والوعيد الإلهي الذي لا يمنحها حرية، لترى أن الجحيم والنعيم هما حالتان للنفس: انفصالًا أو اتصالًا بالنور الإلهي.

أنت كائن مُعرّض للحرية كما قال سارتر. أنت مُلزم بأن تختار، حتى لو كان اختيارك هو عدم الاختيار.
حريتك ليست في انعدام القيود، بل في كيفية تعاملك مع هذه القيود ذاتها.
ربما كانت حرية الروح هي أن تعترف بأنك لست حرًا تمامًا، ومع ذلك ترفض أن تكون عبدًا.
أن تسير في الـ 48 خريفًا وأنت تعلم أن الخيارات محدودة، ولكنك تختار طريقة سيرك، وتختار ما المعنى الذي ستضفيه على الطريق، وتختار أن تضحك أحيانًا على مهزلة "عدس أم بصارة"، وأحيانًا أخرى ترفض الطبقين كليهما وتطلب طبقًا ثالثًا لم يخطر ببال أحد، حتى لو كان ثمن هذا الرفض باهظًا.
إذًا، هل أنت كائن حر؟ متى كانت آخر مرة اخترت فيها اختيارًا حرًا لا يقع بين سندان الإغراء ومطرقة التخويف؟

مشاركة
مواضيع مقترحة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ واحة الأريام