القديس فرانسيس الإسيزي من الإخوة الإنسانية إلى الإخوة الكونية
ولد باسم جوفاني دي برناردينو سنة 1181 في أسيزي وله صلاة مشهورة للطيور وأطلق عليها البعض عظة الطيور التي قال فيها مخاطبا :
"أخواتي الصغيرة اللطيفة ، طيور السماء، أنت ملتزم بالجنة، إلى الله خالقك.
في كل نبضة من أجنحتك وكل نغمة لأغانيك مدحه.
لقد منحك أعظم الهدايا، حرية الجو .
أنت لا تزرع ولا تحصد، لكن الله يوفر لك أكثر الطعام، والأنهار والبحيرات اللذيذة لإشباع عطشك، وجبالك و وديانك لمنزلك، وأشجارك العالية لبناء أعشاشك، وأجمل الملابس تغيير الريش مع كل موسم."
القديس فرانسيس مع السلطان الكامل
"في عام 1219م سافر فرنسيس إلى الأراضي المقدّسة، وفي طريقه التقى في مدينة دمياط في مصر مع السلطان الكامل الأيوبي، وأُعجب السلطان بشخصية القديس وبساطته وشجاعته فاستضافه بضعة أيام وقدّم له الهدايا.
لم يلبث فرنسيس أن انطلق والأخ "الوميناتو" إلى دمياط التي كان يحاصرها الصليبيون، والتي كان يدافع عنها المصريون ببسالة منذ أكثر من سنة، فلما وصلا المعسكر المسيحي والعهدة هنا على الرواة الذين أرخوا لحياة الأسيزي من أمثال العلامة بونافنتورا، راعه أن يرى الفوضى والفساد والعداوات الوحشية، والنهب والسلب والمواخير النجسة تسود المعسكر في ظل الصليب.
كان من بين الأسباب التي جعلت من البابا أوربان الثاني يقوم على إعلان تلك الحروب، القول بأن العرب والمسلمين يمنعون الحجاج المسيحيين من الوصول إلى مدينة القدس لتأدية شعائرهم الروحية. غير أن صيحة فرنسيس في دمياط كانت مخالفة لجوهر الذريعة الرئيسية لتلك الحروب التي شابتها اللاخلاقية وكساها جشع وطمع تجار المواني الإيطالية، وهذا حديث تحليلي قائم بذاته.
على الأراضي المصرية صرخ فرنسيس "ليس هم الشرقيون" الذين يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة، بل غضب الله العادل".
كان مقصد الصوفي الإيطالي الأشهر، ومؤسس جماعة الفرنسيسكان، ذات الرداء البني والحبل الأبيض، والتي هي أهم وأقدم الأخويات الكاثوليكية المنتشرة في كافة بقاع الأرض، كان مقصده الإشارة إلى أن الشرور المرتكبة في حق أهالي تلك البلاد، والموبقات التي تستصرخ السماء، سوف تتحول إلى لعنات تمنع وصولهم إلى الأرض المقدسة.
تعرف فرنسيس على سلطان مصر الملك الكامل بن العادل الأيوبي، والذي أعجب بشجاعة فرنسيس ومحبته وصدقه وصفاء معتقداته الإيمانية، ومواقفه العادلة الإيمانية حتى من بني جلدته، فاستقبله استقبالاً فيه كثير من الفروسية والشهامة والإيناس، وقربه إليه، وقدم له منحًا وهدايا ثمينة.
على أن أهم ما حصل عليه هو تصريحًا كتابيًا يمنحه الحق في زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، والوعظ في طول البلاد وعرضها متى يشاء.
غادر فرنسيس ميناء دمياط منطلقًا إلى الأراضي المقدسة حتى ينسى ما رأت عيناه من مذابح مروعة، وفناء ودمار يعيد إلى روحه المضطرب المحزون التعزية والسكينة اللتين كان يفتقر إليهما.
وفي القدس اتصل الاسيزي بالسلطان عيسى سلطان دمشق مستخدمًا كتاب التوصية الذي أخذه من سلطان مصر، وطلب منه التصريح له ولرفاقه بالإقامة في مقر متواضع فوق جبل صهيون، بهدف رعاية المقدسات المسيحية الموجودة فوق الجبل، وخاصة "علية صهيون"، وكانت هذه العلية عبارة عن مبنى مكون من طابقين في أولهما قاعتان وفي ثانيهما قاعتان أخريان، هما المسميتان بعلية صهيون وبحسب التقليد المسيحي، فإنه في القاعة الغربية منهما تناول السيد المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه.
كتب المؤرخون أن ما كسبه فرنسيس الأسيزي في رحلته هذه فاق ماهو أرفع وأنفع من أربعين موقعة حربية.
لماذا؟
لأنه ببساطة الزاهد استطاع بمحبته وحواره السلمي، أن يصنع وحده ما لم تستطع الجيوش أن تقوم به، فلقد بنى فرنسيس جسرًا من الثقة والحوار المتواصل مع سلاطين العرب، وأئمة الإسلام والمسلمين في البلاد العربية، التي زارها.
لقد سلك فرنسيس، المتسلح فقط بإيمانه ووداعته الشخصية، درب الحوار بفعالية، وأصبح مثالاً يجب أن تستوحى منه العلاقات بين المسيحيين والمسلمين اليوم في تعزيز الحوار في الحق، والاحترام المتبادل والتفهم المتبادل.
ولا شك أن ذلك اللقاء قد صحح لدى كل من الرجلين فكرة مسبقة خاطئة عن معتقد الآخر، فاتضح لفرنسيس أنه يمكن أيضًا عبادة الله الواحد خارج المسيحية، كما تبين للملك الكامل أن المسيحيين الحقيقيين هم دعاة حب وسلام."
✍️في أخر ومضات رحلته هذه ألف نشيد الخلائق الذي عندما تسبر غوره تتمكن من تكوين صورة حول هذا الإنسان الكوني التي تشع كلماته بالوعي الروحي السامي
نشيد الخلائق
أيُّها العَلي، الكلِّيُ القدرة، السيِّد الصالح، لك التسابيحُ والمجدُ والإكرامُ وكلُّ البركات.
إنَّها بك وحدَكَ تَليق أيُّها العَلِيُّ، ولا يَستحقُّ إنسانٌ أن يَلفُظَ اسمَكَ.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، مَعَ كلِّ خَلائِقِكَ، خاصَّةً مَعَ السيِّدةِ أُختِنا الشمس التي هي النهارُ وبها نستنير، وَهيَ جميلةٌ ومشعَّةٌ وعظيمةُ البهاء، وتُشيرُ إليكَ أيُّها العلي.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأخينا القمر والكواكبِ التي في السماء، فَقَدْ كوَّنتها صَافيةً فاخرةً وجميلة.
كُنْ مُسبَّحاً، يا سيِّدي، لأختنا الريح والهواءِ والسُحُب والسماءِ الصافيةِ ولكلِّ الأزمنةِ التي بها تَحفظُ حياةَ المخلوقات.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأخينا الماء الكثيرِ الفائدة، الوضيع، الثمين،العفيف.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأختِنا النار، التي بها تُنيرُ الليلَ، الجميلةِ، البهيجة القويِّة.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأختنا وأمِّنا الأرض، التي تَحمِلُنا وتقودنا وتُنِتجُ ثمارًا متنوِّعةً معَ زهورٍ ملوَّنة وأعشاب.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، للّذين مِن أجلِ حبِّك يغفرون، ويَحتَمِلون المرضَ والشدِّة.
طوبى للّذين يَتَحَمَّلونَها بسلام، لأنَّهم، منك أيُّها العليُّ، سيُكَلَّلون.
كُنْ مُسَبَّحاً، يا سيِّدي، لأخينا «موتنا الجسديّ»، الذي لا يَقدرُ إنسانٌ حَيٌّ أن يَفلُتَ منه. الويلُ للّذين في الخطايا المميتةِ يَموتون، وطوبى للّذين في إرادتِكَ القدُّوسَةِ عندَ الموتِ يوجَدون، لأنَّ الموتَ الثاني لن يُلحقَ بهم شرًّا. سبِّحوا ربِّي وباركوهُ واشكُروهُ واعبُدوهُ بِمنتهى الإتِّضاع.
تأملات الأريام ووقفاتها حول القديس فرانسيس
✍️ لا أعتقد أن القديس فرانسيس الإسيزي كان يعظ الطيور وإن كانت تلك نظرة مرافقيه، إلا أن من يعرف سيرته وروحانيته يدرك أنه كان في وصلة حب مع الطيور، وأن الحروف التي نطق بها كانت لرفاقه الذين لا يفهمون إلا لغة الحروف، أما حواره مع الطير فكان باللغة العالمية التي يفهمها الحب والطير، لغة القلوب، لغة التخاطر، لغة الذبذبات .
✍️ الاسيزي نقلة نوعية في الفكر الغربي حيث النظرة الفلسفية المختلفة في النظر إلى الكون من حيوان ونبات وأجرام وأفلاك.. بل يمكن أن نقول أن نظرة الإيسيزي للكون والكائنات الحية هي جسر يربط الديانات السماوية بالفلسفات والأديان الشرقية .
✍️ يمكن أن نسمي القديس الإسيزي من العابرين من الإخوة الإنسانية إلى الإخوة الكونية.
✍️ كان للإسيزي لقاء مع الملك الكامل الأيوبي، لقاء إنساني حضاري، لقاء محبة في ظل أجواء أحقاد الحروب الصليبية، حيث علا صوت الحوار الديني في إطار من المحبة، ولما لا وهو من صلى للطيور .
لقاء الغرب بالشرق والمسيحية بالإسلام فتح آفاق كلا الطرفين ليروا أن هناك إيمان مختلف وطريق إلى الله مختلف وإخوة تجمع المختلفين في الفكر والدين.
✍️موقف الإسيزي أثناء الحملة الصليبية ورفضه لأي مخالفات تتم تحت الراية الدينية ولفته مهمة تبين كيف أن هذا الرجل قد سكن النور قلبه عندما أدرك أن الظلم والبغي والفجور هم من يمنعون الإنسان عن الإله، عن النور.
ويظل القديس فرانسيس الإيسيزي الروحاني أو الصوفي المسيحي الغربي منارة للحوار والتعايش بل وصلة الإنسان بغيره من المخلوقات وكأنه كان يرى الله في كل شيئ، في كل مكان .
ليست هناك تعليقات: