تلك النفس البشرية بكل ألغازها كان ولابد
لها من ميزان لضبط حركتها ، وتنوعت تلك الموازين ما بين موازين فكرية بشرية فلسفية
أصل لها كبار الفلاسفة ، تراوحت ما بين الإنغماس في الجسد وشهواته ومادية الحياة وإطلاق
العنان للشهوات لإشباعها ظنا أن هذا هو الطريق للصلح مع النفس .
فالبعض جعل من الجنس قبلة الحياة وسر وجودها
وغريزة لا يمكن ترويدها وهي محور الخلق ، والبعض الآخر حاول الهروب من الطبيعة الدونية
والطينية للإنسان ليؤسس المدينة الفاضلة ويفترض أنه على الإنسان أن يكون ملاكا على
الأرض وينسلخ من طينيته وشهواته .
وسط فلسفة الفلاسفة ومحاولات المفكرين وعلى
مر الأزمان منذ خلق الله آدم حتى ختم رسالاته بمحمد صل الله عليه وسلم كان ميزان النفس
البشرية يتنزل من السماء لإرشاد تلك النفس حتى تقوم سلوكها وكان أهم ما يميز هذا الميزان
أنه من الله الذي فطر الإنسان وخلقه ونفخ فيه من روحه ويعلم طينيته ودونيته وكنه الروح
التي نفخها فيه
فكان ميزان يضبط حركة النفس بين قطبي الروح
والجسد فلا يتجاهل الشهوات ورغبات الجسد بل يضبط إيقاعها ويرسم لها طريق للنجاة وطرق
للسمو والإقتراب من الروح
غريب أمر النفس البشرية .فهي لغز محير عجز
عن إدراك كنهه الفلاسفة وتاه فى دروبها ومنحنياتها وتضاريسها الباحثون ...
الإزدواجية التي تعانى منها النفس إستوقفتني
كثيرا وبحثت عند الفلاسفة عن جواب شافي فلم أجد ..
نفس الموقف الواحد وربما فى الزمان والمكان
الواحد تتلون النفس فى التعامل معه دون سند من مبدأ أو ضمير .
وجدت مثلا شعبيا بسيطا فى الكلمات عميقا
فى المضمون ربما يمس تلون النفس الغامض
<حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يتمنى لك
الغلط >
هنا يتضح الميل والهوى الذى يحكم تصرفات
تلك النفس المعقدة
يصفعك من تهواه سواء هوى قلبي أو مادى على
وجهك فتتذكر الحلم والعفو ، وتلتمس الأعذار وربما تدير له خدك الثاني ، وينظر إليك
نفس الشخص إن تغير الهوى نظرة لا ترضيك فتقيم الدنيا ويكون شعارك البادىء أظلم
..!!
تتمسك بقول المسيح سماحة وتقول أعطه الخد
الأيسر وتلوي عنق النص في موقف آخر مماثل لتقول تعطه الخد الأيسر بعد كسر يده !!
ينهى أمير المؤمنين علي عليه السلام في
نهج البلاغة عن السب واللعن فتخرج نفس بشرية لتفسد المعنى وتحرف الحرف وتضرب بأصول
الفهم عرض الحائط وتقول ما نهى علي عن السب إلا لكي لا يسبه بني أمية وكأن علي عليه
السلام يريد فقط أن يسب المؤدبين الذين لا يردون السباب !!
طبيعي أن تتغير مواقف وكلمات الإنسان الباحث
عن التجويد والساعي للحقيقة بتغير المعطيات وتغير الظروف ، وتتغير تلك المواقف للتناغم
مع المبادىء ولا مانع من الإعتذار عن الخطأ والرجوع عنه ، بل المبادىء والتي هي من
المفترض ثباتها ربما يتغير جزء منها إذا تغير المعتقد الديني أو الإتجاه الفكري وهذا
ليس عيبا ، وفى الغالب كل الباحثين عن الحقيقة يتقلبون بين الأفكار والمعتقدات حتى
تستقر سفينة أفكارهم على شاطىء الحقيقة التي ينشدونها .
فهم يتخذون الشك طريقا ولكن ليس شك التيه
أو الشك من أجل الشك بل شك البحث حتى الوصول لليقين .
العيب كل العيب فى التلون بلون فى الصباح
ولون فى المساء دون تغير جذري فى الأفكار والمعتقدات إلا إذا كانت معتقدات وأفكار هؤلاء
تتبدل مع الملابس فتلك علامة إستفهام أخرى ...؟
النفس البشرية على ما يبدو مرتبطة إرتباطا
وثيقا بالأرض
ومع ذلك لو أصاب الحذاء غبار الأرض أسرعت
بتلميعه ، ولو أصابت الملابس غبار الأتربة إنتفض الإنسان ليزيل هذا التراب
مع أن التراب هو الإنسان في نصفه على الأقل
...!!!
هو أصله وماضيه ومستقبله ، التراب هم السابقون
من الجبابرة والقياصرة ، هم الأسلاف ومصير الإنسان المحتوم !!!
بعد محاولات لفهم تلك النفس التي تجمع الأضداد
وتحتوى كل قبح وكل جمال ، وتكون ظالمة ومظلومة ، صالحة ومصلحة وفاسدة ومفسدة فى ذات
الوقت ، وجدتها هي التراب .
هي الأرض بخضرتها وصحرائها ، بأبيضها وأسودها
وأصفرها ، بأنهارها وبراكينها وزلازلها وصالحها وطالحها ومعادنها رخيصها وثمينها.
وكانت علة النفس الأساسية هي الهوى ومن
ثم لابد من ميزان ليضبط إيقاع النفس البشرية ، ما حقيقة هذا الميزان وأين هو ؟
وقفت عند الحديث الشريف انصر أخاك ظالما
أو مظلوما،
فرأيت فيه ميزان عجيب لضبط إيقاع النفس
البشرية .
فطرة سليمة من المتلقي لم تستسغ نصرة الظالم
حتى لو جمعتهما الإخوة العقائدية ، ولم تأخذ الكلمات على عمى من بصيرة فتنطلق بها ،
ولكنها سألت ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟
وهنا كان الميزان ، ميزان الحق والعدل المجرد
عن هوى النفس أو الروابط الإجتماعية أو حتى العقائدية والفكرية ، نصر الظالم برده عن
ظلمه وإن جمعتهم الإخوة.
إنها التحرر والحرية من قيود العرق واللون
والطبقية وحتى من قيد العقيدة الدينية فكان العدل فوق كل القيود ، إنه الدين الخاتم
يا سادة فلابد أن يكون العدل والحرية هما عماده لأنه سيظل المظلة الزمانية والمكانية
للبشرية حتى تحين النهاية .
إنها العدالة المجردة والحق المنشود
في قاعدة ذهبية أخرى يقول الله عز وجل
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله
شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله
إن الله خبير بما تعملون) .
ولا يجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا
هنا وضع للعدل فوق مستوى الخصومة أو حتى
الكراهية ، فعندما يدخل أمير المؤمنين علي في خصومة على درع مع يهودي وهو من هو لدينا
نحن المسلمين سواء من ناحية قيمته الدينية أو السياسية في ذلك الوقت ويحكم القاضي لليهودي
بالدرع فلابد أن نقف هنا وقفات عند هذا الضابط الذي ضبط إيقاع النفس البشرية في تلك
الحادثة التي ربما تكون فريدة تاريخيا .
فهنا ميزان من أهم وأخطر الموازين لضبط
حالة النفس على الصراط المستقيم
قاعدة ذهبية وميزان حساس لضبط إيقاع النفس
البشرية لم أرى مثل تلك القاعدة فى أعراف القبائل ولا دساتير الديموقراطيات ولا مواثيق
الحقوق .
وتبقى النفس البشرية بكل تعقيداتها بحاجة
للميزان الإبداعي لمن أبدعها لتستقيم فى رحلة النهاية إلى البداية .
ليست هناك تعليقات: