حكاية مصرى ..متوفرة بأكشاك ومقار جريدة الجمهورية
إسم الكتاب ..حكاية مصرى
النوع...رواية
المؤلف ..د.عاطف عبدالعزيز عتمان
المقدمة ..الأديبة والشاعرة أميرة الرويقى
الناشر...دار الجندى للطبع والنشر
الطبعة الأولى ...يونيو 2013
فى القطار
وشاءت الأقدار أن تتخلى السمكة عن الماء ليالي وأيام
ولم يعد هناك من دواء لداء البعاد سوى الصبر تتجرعه كاسات وكاسات
وكان العزاء ومصدر السلوى ومهون البلوى
ذلك الجهاز العجيب الذي طوي المسافات وتجاوز الأزمان وإن كان غالى التكلفة لإرتفاع أسعار المكالمات
فلابد أن تحمل إلى جواره فى جيبك ذلك الكارت الرخيص التكلفة كارت الإتصالات من الكبائن المنتشرة فى الشوارع
ويبقى الجهاز الذي بدأ ينتشر رويدا رويدا ..
حتى صار كالبطاقة الشخصية .
جهاز الهاتف النقال هو السلوى للحاجة فاطمة وحلقة الوصل مع مصري فى الغربة التي لا تدرى كيف ستتحملها ولكنها الضريبة الإجبارية لتحقيق حلمها ...
حان اليوم الموعود وبدأ مصري يحضر أمتعته قاصدا المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة والكائنة بمحافظة الجيزة ...
حمل مصري حقيبته وقبل يدي أمه وإحتضنها وقبّل رأسها وقبل أن يطلب الدعاء منها إنهالت عليه الأدعية من قلب صادق ونفس تمتلئ بالحب الفطري ...
الحاجة فاطمة ..
ربنا يحفظك يا بني خلى بالك من نفسك وركز في مذاكرتك وطمنى كل يوم على أحوالك ..إتغطى كويس لازم تفطر قبل ما تنزل الكلية ....
مصري ..
حاضر يا أمي لا تقلقي ..خلى بالك أنتي من صحتك
ذرفت العين العبرات وتمالك مصري وأمه نفسيهما ..
فالمشوار طويل وتلك هي الخطوة الأولى ...
وما أن خرج مصري من البيت وعين الأم جادت بالدموع الغزيرة
ولسانها يلهج بالدعوات الصادقة ...
الحاجة فاطمة...
تحلم بذلك اليوم الذي تجنى فيها ثمار ما زرعت ..وترسم فى خيالها صورة الدكتور مصري وتشتكى له ألام مفاصلها وتنتظر الشفاء على يديه من الأسقام ..
وتحلم بالراحة من عناء الأيام ..
على صديق مصري دخل كلية العلوم جامعة الإسكندرية ومحمود دخل كلية الطب البيطري بجماعة الإسكندرية .
التقى الأصدقاء على رصيف محطة القطار ...
ولكن الإتجاهات لم تكن واحدة ..
فمصري على الرصيف الشرقي ينتظر القطار المتجه لقلب العروبة قاهرة المعز ...
ومحمود وعلى على الرصيف الغربي ينتظران القطار المتجه لعروس البحر الأبيض المتوسط .
على ..
ينادى على مصري خلينا على إتصال وأشوفك فى الأجازات ...
مصري ...
إن شاء الله يا بختك أنت ومحمود مع بعض ..
محمود ..
.يشير بأصابعه الخمسة من شر حاسد إذا حسد ..
حضر القطاران فى ميعاد واحد تقريبا وفى إتجاهين متعاكسين وحجب جسم القطاران الرؤية بين الأصدقاء ..
وحان وقت بداية الرحلة والتي بدأت بإتجاهات مختلفة ..
يسلك كل من الأصدقاء الثلاثة إتجاه ما ...
ربما يكون إختياره وربما يكون القدر هو صاحب القرار في إختيار رفيق الرحلة والمسار..
ركب مصري القطار في الدرجة الثالثة ...
وهو ينتظر الوصول للقاهرة
ويفتح جناحية ويستعد للتحليق فى سمائها باحثا عن الحقيقة ..
باحثا عن مصرية ..
ولم يكن يتصور أن القطار سيكون جزء مهم من تلك الحقيقة التي أنهكته بحثا وتحليقا .
فى الدرجة الثالثة .
ذات الكراسي الخشبية المضلعة والشبابيك التي تعانى معاناة الوطن ...
إما أنها لا تعمل أو بدون زجاج أو مكسورة .
وغرفة حديدية صغيرة بين عربات القطار يطلق عليها الحمامات والتي تكنى أحيانا ببيوت الراحة ولا يدل أي من معالمها أنها حمامات أو مصدر راحة سوى تلك الرائحة الكريهة المنبعثة منها
وبقايا المناديل الورقية التي تسهم فى رائحة المكان ...
ويوجد فى أعلى عربة القطار على الجانبين رف طويل من الخشب المحمول على زوايا حديدية قوية .
.وهو مخصص لحمل الأمتعة ..
ونظرا للزحام الشديد فلا توجد مقاعد خالية فضلا عن عدم وجود مكان للوقوف الآمن والمستريح بعيدا عن الباعة الجائلين
وسطوة المتسولين وصعود ونزول الركاب من محطة إلى أخرى ...
المسافة طويلة حيث يستغرق القطار ما يزيد عن الثلاث ساعات حتى يصل باب الحديد فى قلب ميدان رمسيس الذي يتوسط قلب القاهرة ...
نظر مصري الرفوف الخشبية فوجدها مرصعة ليس بالأمتعة
بل مرصوصة بركاب جالسين عليها بجوار سقف القطار الذي يشبه القبة و وتتوسطه أماكن لمبات الإضاءة التي تشهد أنه فى يوم من الأيام كانت هناك إضاءة
وتتدلى أقدامهم إلى الأسفل فوق رؤوس الجالسين على الكراسي ومن هنا كانوا يخلعون أحذيتهم ويكتفي الجالسون على الكراسي برائحة الجوارب ...!
نظر مصري لهذه الأرفف وبدأ يبحث عن مكان عليها حتى يصعد ويجلس ويخوض تلك التجربة للمرة الأولى ..
فمع عدم مناسبة المكان لجلوس البني أدمين وعناء إنحناء الظهر طوال الطريق
وتأذى الجالسين فى الأسفل من سكان الأدوار العليا.
ولكن مصري عاشق للسماء يحب التحليق ويريد أن ينظر من أعلى فيرى الصورة كاملة وواضحة ..يريد أن لا يكون جزء من الصورة حتى يراها بوضوح وموضوعية ويمتلك زوايا رؤية عديدة ومتنوعة ..
ونظر إليه أحد الجالسين على الرف الأمامي وأفسح له المجال فأعطاه مصري حقيبته ..
ثم إستأذن ووقف على حافة الكرسي ومد الرجل يده لمصري وساعده على القفز ليعتلى الرف ويجلس بجواره ...
خلع مصري حذائه ووضعه بجانب الحقيبة وحظي بوافر الحظ أن وجد مكان يقرفص فيه حتى الوصول .....
وظلت عيني مصري تتجولان يمينا ويسار تبحث عنها ...
ألم يحن بعد موعد اللقاء ؟
...أين أنت أيتها الحورية ؟
...أين أنت يا مصرية؟
أتاح المكان المرتفع لمصري فرصة ذهبية يرى الركاب من فوق ويعيش مع كل ركاب العربة يسمع ويشاهد ويرى ويشهد للتاريخ
فكانت عربة القطار بمثابة وطن صغير وطن بأناسه الحقيقيين الناس الترسو والحرافيش ...
الدرجلة الثالثة ...
فى القطار حياة متكاملة ..
فيه اللص الذى يتحين الفرصة ليسرق ضحية سرقها الزمن ونصبت عليها الأيام أو يسرق بيضة أو قطعة جبن فلاحي من تلك الفلاحة صاحبة الجلابية السوداء والأيادي الخشنة والضحكة الفطرية التي تعاند بها الهموم وتحارب بها فى وجه الظلم وتنير أسنانها المضيئة الظلمات والتي تحمل سبت به الجبن والبيض وتسعى للمدينة متمنية العودة بما يسد رمق ذويها ...
وسبحان الله ..مع همومها وغمومها وشقائها من أجل لقمة العيش
ومع التعب البدني ..من حمل للسبت وما فيه وزحام القطار وطول المشوار وضآلة المقابل وظهور خشونة المعيشة على يديها .
إلا أن الرضا والبسمة لا تغادر شفتيها ..
وتتبادل أطراف الحديث والنكت مع جيران القطار كأنها فراشة تطير وتداعب الزهور فى رقة ورشاقة .!!!
ودخل بائع القازوزة ..
حاجة ساقعة بيبس بيبس....
بملابسه المبتلة وجردل الساقع على كتفه يمسكه بيد ويمسك الفتّاحة ويخلى الطريق باليد الأخرى
ولا يستطيع غيره دخول القطار فإنها مملكة معلمه الإمبراطور
-إمبراطور الحاجة الساقعة وأحد حكام مملكة القطار وجابي الإتاوات ومقسم الأرزاق –
الذي يوزع عليه وعلى زملائه الغنائم ..
والحاجة الساقعة فى ظل عدم وجود الماء وفى ظل تقاطر حبات العرق قد تكون الملاذ لمن لا يحمل زجاجة ماء من الفقراء ليروى عطشه فى حر القطار ومع سخونة أنفاس الركاب ..
بائعة الجبن.....
تنادى على بائع القازوزة ..إفتح واحدة برتقال ..
بائع القازوزة حاضر يا ست ويسمع مصرى فرقعة فتح الزجاجة ..
بائعة الجبن ..
تعزم بالزجاجة على من بجوارها إتفضلوا ..ويرد الجميع بألف هنا ..
وبمجرد إنتهاء بائع القازوزة من تلك الجولة والإنتقال لعربة أخرى يعقبه بائع الشاي ...
حاجة سخنه شاي شاي ...
ومن بعده بائع الحلوى والحمصية وكأنه نظام مرسوم كل يسير فى فلك محدود ....
ويجلس مصري يتابع من أعلى وفجاءة تدخل سيدة تمسك خشبة.. عمرها فى الأربعين وتلبس جلابية سوداء يسيل بعض اللعاب من بين شفتيها ..
من هذه السيدة ؟
..ولماذا تمسك بهذه الخشبة ؟؟
أنه نوع جديد من التسول بالإكراه ..
نعم بالإكراه ..
هذه السيدة تطلب المال من ركاب القطار وتحاول تقبيل كل راكب حتى يعطيها ...
ونظرا لمنظرها وللعابها الذي يسيل فهي محل اشمئزاز من الجميع
ويضطر البعض لإعطائها النقود من بعيد حتى يتجنب تلك القبلة اللعينة ..
ومن لا يستجيب لابتزاز القبلة تضربه بالخشبة التي تحملها فى يديها ...
تسول بالإبتزاز أحيانا وبالإكراه أحيانا أخرى
ويا لسخرية القدر ..
أموال تنفق من أجل قبلة وأموال تنفق من أجل تحاشيها ...
المتسولة ...
حاجة لله وتذهب لبائعة الجبن وتقول لها حاجة لله ..
بائعة الجبن ..
يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم ..هو كل يوم ..الله يحنن عليكى تأخذى بق برتقال ..
فتأخذ ضربة بالخشبة من المتسولة تحاول تفاديها بتمايلها برشاقة ..
ويدخل ذلك العجوز صاحب النظارة السوداء والعصي الخشبية
رافع رقبته كأنه ينظر للسماء وتوحي هيئته بأنه كفيف
ويبدأ المشوار بالصلاة والسلام على النبي العدنان ويطلب المساعدة للعاجز الغلبان وينهال دعاء فى اليمين وفى اليسار ..
الله ما يحوجكم ..الله يشفيكم ..الله يكفيكم شر البلاء
لاحظ مصري أن كل دعواته لدفع البلاء والتذكير بشر القضاء
تحذير من النار ولا تقترب لتبشر بالجنة ...!!
وفجاءة يدخل رجل يرتدى جلابية واسعة فلاحى ذات الأكمام الواسعة والسيالتين ..
-والسيالة هي الجيب الجانبي العميق في الجلابية-...ويحمل قفة ..
-والقفة تصنع من سعف النخيل وتستخدم كوسيلة لحمل الأطعمة والأغراض الأخرى .
فى القفة كانت فاكهة البرتقال تملئوها ...
ووقف الرجل عند بداية العربة وبدأ يعرض بضاعته وكانت طريقة بيع جديدة لم يعتدها مصري من قبل ..
بدأ بائع البرتقال ينادى ثلاث برتقالات بجنيه ..بجنيه .
ولا يتحرك أحد ليشترى منه سوى رجل واحد إشترى ثلاث برتقالات ...
وإستمر البائع على هذا المنوال فترة فلما لم يجد من يشترى منه
فبدأ المزاد أربع برتقالات ...وبعد فترة خمسة ..ووصلت لسبعة فى نهاية المطاف ...
بائعة الجبن ...هات ثمانية والجنيه أهوه
بائع البرتقال ..هما سبعة مفيش غيرهم
بائعة الجبن ..والله لازم تجيب ثمانية
بائع البرتقال ...والله ما ينفع عليا الطلاق تخسر
بائعة الجبن ..بلاش أيمان وكفاية طلاقات هات ثمانية يا بلاش
وتنجع بائعة الجبن فى كسر الرقم سبعة وتحصل على الثمانية برتقالات وتقع أيمان بائع البرتقال
الركاب المحترفين إنتظروا حتى حصلوا على عرض السبع برتقالات والهواة كل وصبره .
منهم من أخذ ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة
وكانت هذه طريقة جديدة لم يعدها مصري وأنبأته أن القادم مختلف وأن عليه أن يستعد للمدينة وأضوائها ويطوى صفحات القرية مؤقتا حتى يتعايش مع البيئة الجديدة ...
فى الكرسي الذي يقع أسفل مصري كان يوجد رجل أربعيني السن شاحب الوجه من الواضح أن المرض أنهكه وأن الزمان أكل عليه وشرب ..
سمع مصري حواره مع مرافقه وبدا فى يده ظرف مليء بالأشعة
إنه مريض كبد من بين ألاف بل ملايين مرضى الكبد فى مصر التي نهشت البلهارسيا أكبادهم وفيروس سى اللعين يعشش فيهم وتطور الأمر وأصيب البعض بسرطان الكبد ...
جراء الفساد والإهمال والتجارة المحرمة بالمبيدات المسرطنة والفواكه المهرمنة ...
المريض بصوت خافت مهزوز.......
..أنا تعبت من الدكاترة والدواء والمصاريف غالية ومعدتش قادر أشتغل
مرافقه ...
الصبر إن شاء الله الكاترة فمصر هيعطوك علاج يرحك وتبقى زى الحصان
المريض ..
يا رب يجيب الشفاء لأني زهقت من حياتي ومش كفاية إنى مش قادر أشتغل لا مطلوب منى أشترى الدواء وفى المستشفى لا يعطوني أي علاج
مرافقه ..
إن شاء الله ستكون بخير أرمى حمولتك على ربنا
المريض ...
ونعم بالله ..تكالي عليك يا رب
وللكبد خصوصية فهو المايسترو وليس كما يظن البعض أن القلب هو أغلى مضغة ..
بل الكبد هو الإنسان ولذا تجد الأم الصعيدية المكلومة تندب ولدها وتنعته بكبدي ...
ترك هذا الفلاح المريض قريته وهو ذاهب للقاهرة ...عسى أن يقهر أطبائها هذا المرض اللعين الذى أقعده عن العمل وهو العائل لأسرة من خمسة بنات فى ظل غياب الدولة وفى ظل الذئاب المسعورة وسماسرة النخاسة المأجورة ...
لم يكن يدرى الفلاح المصري المريض أن كبد مصر حاله ليس بأفضل من حال كبده وأنه جزء من كل والكل معيب ومعطوب....
وعلى الكرسي المقابل يجلس شاب فى الثلاثينيات من العمر يلبس قميص أبيض وبنطلون جنس ويحمل أوراقا ويتحدث أنه ذاهب ليتقدم فى أحد الشركات بعد أن حصل على توصية من عضو مجلس الشعب .....
ويحكى الشاب للرجل الذي بجواره وهما يتبادلان أطراف الحديث أنه منذ عشر سنوات يركب القطار للبحث عن العمل من سفر إلى سفر وليس أمامه سوى الأمل
..ولكن الإنتخابات على الأبواب ولعل سيادة النائب يصدق فى هذه المرة وتكون تأشيرته يابانية بعد أن أدمن التأشيرات التايوانية
ويحكى الشاب كيف تعب أبوه حتى يصل للنائب
ولولا قرب الإنتخابات ما تمكن من رؤيته ولا الحصول على تأشيرته
الشاب كله أمل أن ينجح تلك المرة فى إقتناص الوظيفة ..
فجاءة سمع مصري صوت غريب داخل الشبكة التي تحيط بلمبة القطار التي يبدو من شكلها أنها لم تعمل ولم تجرى لها صيانة من سنوات ..
أمعن مصري النظر فإذا بفأر كبير يلعب فى الخرابة المحيطة باللمبة ويغازل بعد المواد البلاستيكية البالية بأسنانه
كانت تلك الشبكة وما تحويها من مخلفات وما بداخلها من فئران ترسم صورة مصغرة لحالة التردي والإهمال التي يعيشها الوطن المظلوم ....
مصري بدأ يتذكر تلك الأخبار التي كانت ترد عن حوادث القطارات
من حين لأخر ويتابعها فى الأخبار
تذكر مصري هنا ما درسه فى الكتب من وجود وسائل الأمان من طفايات حريق وفرامل للطوارئ وبدأ يبحث بعينيه
ويسترشد بجاره فى الطابق العلوي الذي مد له يد العون وأجلسه بجواره
..أين فرامل الخطر وطفايات الحريق ؟؟
...عجزت عيني مصري عن إلتقاط تلك الصورة الغائبة ورأى بسمة ساخرة على وجه جاره
كانت كفيلة بالإجابة ...
قال الرجل والذي من الواضح أنه من الرواد اليومين للقطار ...
طفاية وفرامل ..!!! الهيئة دى مش فاضيه للحاجات دى يا أستاذ و هيجيبو لها فلوس من أين ؟
مصري ..
فين ميزانية السكك الحديدية وفين الصيانة الدورية ؟
الرجل ...
ميزانية إيه يا أستاذ ..الميزانية معمولة للحوافز والعلاوات وبدلات البهوات ...
أصدر القطار صافرة طويلة كانت صرخة عظيمة وتنهيدة مريرة ....
شكي فيها القطار من عنت السنين وجهالة البني أدمين ..
شكي الحمل الذي يفوق طاقته والقسوة التي تميز مالكه ..
شكي الجوع والعطش وقلة النوم والراحة ...
شكي السن الكبير وعدم توقير البني أدمين .
أطلق القطار صافرته وصرخ فرجع إليه صدى صوت صافرته بلا مجيب
وكأن الآذان قد صمت والقلوب قد تحجرت فتنهد تنهيدة عميقة و نفث دخانه فعلى فى السماء لعله يخفف من حدة إحتقان صدره الممتلئ بالهموم...
رجع مصري داخل العربة يتابع الصورة ..
هناك على بعد كرسيين يجلس رجل في الخمسين من العمر وعلامات البؤس والفقر تطلان من عينيه والمرض واضح من صفار بياض عينيه وملابسه تنبئ ببؤسه
وبجوار بنت جميلة صاحبة ضفيرتين طويلتين وعيون تحمل من الطفولة البراءة
ومن قسوة الأيام المرارة ..
فى الخامسة عشرة من عمرها تقريبا ترى الدموع فى مقلتيها وبؤس الطفولة المحرومة فى قسمات وجهها ولم تشفع لها طفولتها ولا جمالها الرباني من الإنزلاق للمصير المحتوم
جلس الأب يلقن إبنته النصائح ...
الأب ...
معلش يا بنتي غصب عنى ..إنتى عارفة الظروف أنا تعبان وإخوتك حملهم ثقيل ومكتوب عليكى تشيلي معي هذا الحمل ولا تخافي الناس على رايحه عندهم طيبين ..إسمعى الكلام وإوعى تزعلى حد منك
البنت ..
دموعها فى عينيها تأبى النزول وتهز رأسها وبصوت خافت ترد حاضر يا أبى ..
بس كان نفسي أكمل تعليمي
الأب والحسرة تملأ نفسه ..غصب عنى
قد حكمت الأقدار ..
الطفلة الصغيرة جاءت للخدمة فى البيوت و لن تكمل تعليمها وستدخل معترك الحياة لتساعد أباها فى حمل معاناة الأسرة التي لم يعد يقوى على حملها وحده .......
وكان هناك كرسي غريب ...
طوال المشوار ..ساقع وساخن وفاكهة ويحملون سندوتشات تفوح رائحة الكبدة منها وعلبة السجائر من ماركة مستوردة وتكاد العلبة الثانية أن تفرغ ...رجلان أمرهما غريب ..لماذا يركبا القطار ؟..ولماذا عربات الفقراء ....؟
ومع هذا البذخ في المصروف لماذا لم يستقلان السوبر جيت ...؟
أحدهما يقول لزميله ..حضرت المعلوم الباشا لا يترك مليم وده كله انا فاعل خير وجاى المشوار ده عشان خاطرك فقط فلا ناقة لى ولا
جمل
يرد رفيقه ...البركة فيك وحقك محفوظ
ومع تعالى الضحكات والقفشات ولكن مصري رأى ضحكتهما صفراء باكية...عكرة غير صافية وتذكر ضحكة بائعة الجبن الفلاحى الصافية !!!!
لم يستطع مصري فهم تلك الصورة وإن غلب على ظنه وبعض الظن إثم أن هؤلاء هم النخّاسون ...
فى سوق نخاسة القرود
وتابع مصري رسم الصورة بعينيه
محفوظ أفندي والذي يرتدى جاكت من الصوف فوق الجلابية البيضاء ويمسح على شاربه ليساويه بعد أن أكل البرتقال ويرتدى طاقية قيمة تحافظ على ما فى تلك الرأس من التبخر أو الطيران
ويحمل فى يديه الجرنال ويمسك بالجريدة والتى من الواضح أنها معارضة من الجرائد العميلة ...
عميلة لركاب الدرجة الثالثة ..الحرافيش
محفوظ أفندي.. يقرأ بصوت مرتفع ويتدخل فى الأسلوب تارة ويخاطب من حوله وينقل لهم الأخبار
محفوظ....
مصر تفوز بالمركز الأول عالميا ...!!!!
نظر إليه من حوله بشغف..!!!
فأكمل محفوظ .....فى حوادث الطرق والقطارات ...تشاءم الركاب وقالوا يعم تف من بقك ..
واصل محفوظ .
.الفشل الكلوي والكبد يتصدران الأمراض المستوطنة فى مصر ..
غرق مركب يحمل مهاجرين.. من العيشة قرفانين وللموت طالبين ...ومركب أخر يغطس بالمعتمرين ..وأب يبيع إبنته ..وزوج يتاجر بزوجته ....صاح أحد الحاضرين ...
كفاية يا عم إرحمنا يتشوف حاجة حلوة يا تسكت ...
قال محفوظ نشوف حاجة حلوة ...
المنتخب المصري يلعب اليوم على بطولة كأس الأمم الإفريقية ولو فاز يكون اللقب الخامس
هلل الحضور على الكراسي والجماهير على الرف
وختم محفوظ بصفحة الرياضة
هذا جزء من الصورة الداخلية فى القطار ..
أما خارج القطار والهاربين من تذاكر الكمسري وقاطني سطح القطار والواقفين فى الفواصل بين عربات القطار من الخارج
تلك مأساة وطن من نوع فريد...
هم عراة فى الهواء يعيشون على الألغام ..
فى وطن عاري ملغوم ...
هم المقبلون المدبرون ..هم الجناة المظلومون ...على سطح القطار البداية وعلى القطبان النهاية
إنفعل مصري بما سمع وسأل جاره فى الطابق العلوي ..من المسئول ؟؟؟
فأجابه جاره ...مفيش دليل على المسئول ..إزاى هتحاسب ومين يحاسب ومفيش دليل ....!!!
تراقصت الحروف أمام عيني مصري
وإنهالت عليه المعاني والكلمات وأمطر سقف القطار الذى يعانى الحرمان والأنين تلك المعاني على لسان مصرى ....
...مفيش دليل
وأنا المسؤول..
...أنا الدليل..
السحابة السودا فى السما..
والنفس مكتوم..
وغبار المصانع كسى..
والأسمنت مهموم..
والنيل بطوله إشتكى...
وأنا المسؤول..
والقطن المصري بكى..
وطويل التيلة معلول..
وسنابل القمح دبلت..
ومالت من كتر الهموم ...
مالت ومن شعاع الشمس..
هربت وبتلوم..
وفواكه الأمراض بتقول..
إسهال أرت يكاريا...
والسرطان ده الغول..
فشل كلوى..
ولا فيرس سي..
إختار إنته بس وقول ....
مفيش دليل ..
وأنا المسؤول..
.أنا الدليل.....
الأرض إشتكت ..
والسما بكت ..
والنيل مهموم..
مفيش دليل ..
وأنا المسؤول...
وكان الحلم المستحيل....
بق ميه..
لقمة هنية....
نسمة هوا...
تشفى قلبي المعلول...
مفيش دليل....
وأنا المسؤول .....
........ أنا الدليل.......
فى المدرسة ...
أحفظ أنا وأقول..
وبعد الجامعة..
على القهاوى ملطوع..
الموهوب ....
...طار....
وعلى بلاد العم سام.
حط الرحال والهموم..
وهناك عمل عمايل....
سوى الهوايل..
عمايله بتقول..
للحاضر و للغايب...
أنا المصري..
أنا المصرى..
أنا المظلوم...
أنا الطير المحروم...
مفيش دليل ..
وأنا المسؤل..
...أنا الدليل....
المنحوس..
عالقهاوى بيبوس..
حجر معسل ..
سادة ولا بغموس..
والفحم بيحرق..
وهو بيتحرق ...
من فحم النفوس..
وبالهموم مهووس...
مفيش دليل ..
وأنا المسؤول..
...أنا الدليل....
الغلبان والجعان...
جرى هربان...
من ذل الهوان...
وكسرة نفس الهيمان...
وفى البحر..
ركب الموت...
وكان مكانه ...
بطن الحوت....
ومحدود الدخل ...
بقى معدوم....
مفيش دليل.....
وأنا المسؤول....
...أنا الدليل...
آه يا مصرى
آه يا مصر
فى القسم منهان
وفى المستشفى ..
عيان وعدمان ..
و فرن العيش مقتول..
وعلى أنبوبة الغاز...
.......ملهوف..ملهوف..
و فالدروس الخصوصية محتاس..
وبين الأكابر منداس...
لو إشتغلت عدمان ر
ولو عاطل معدوم..
ومفيش دليل ..
و أنا المسؤول..
.....أنا الدليل....
من بعيد..
من بعيييييييد...
شايف مارينا....
شايف أهالينا....
شايف الجنة على أراضينا....
الميه معدنية....
والعيش بسكوت....
والمايوه على الجسم المكشوف...
والهمر والقمر....
الليل نهار...
والنهار بقى ليل....
والفلوس بتدوس..
كله بالفلوس بيبوس..
كله بيبوووووس...
كله بالفلوس بيدوس
كله على النفوس بيدووووس
والشعب المنحوس...
الكل عليه بيدوس...
بيدووووووس..
مفيش دليل ...
وأنا المسؤول..
....أنا الدليل......
ليست هناك تعليقات: