الباب الأول
فى واحة الطفولة
الفصل الأول ...تحت شجرة الصفصاف
على ضفاف النيل الخالد وتحديدا على الشاطئ الغربي لفرع رشيد وقبل المصب بحوالى 100 كم وفى مطلع العام 2011 ...ومع شروق الشمس فى يوم سماءه صافية
تحت ظل شجرة الصفصاف وبعض غصونها يمتد ويتدلى ليشرب من ماء النيل ونسمات الصيف البحرية تعزف أنشودة الحياة على أوتار الأشجار ..
تداعب الغصون والأزهار فضلا عن الأوراق.... وتلاعب الخيال والأفكار ..
كانت شجرة الصفصاف تلك شجرة كبيرة شاهدة على مكنون صفحات تاريخية عديدة ..
شجرة الصفصاف شجرة عجيبة ورقها ليس بالعريض ولا خيطى فهى وسطية ولونه لون ما بين الخضرة والصفرة فيعطى اللون الأخضر الفاتح .مما يدخل على النفس شعور بالبهجة والسعادة ..
ظلها ممتد ومع إمتداده لا يحجب ضوء الشمس ولا نسائم الحرية ..شجرة يحتوى لحائها على مسكنات طبيعية تسكن الألم وتقى من الجلطات الدماغية فهى شجرة أسبرينية .....
العصافير تغدو خماصا تبحث عن الحب وتسبح بحمد الرزّاق رب البرية ...
تحوم يمينا ويسارا مغازلة سنابل القمح الذهبية تحاور وتناور من أجل حبة قمح شهية تسد جوع الرعية .......
وعلى اليمين النخلة عمة البشرية . شامخة أبية وشاهدة على جزء من تاريخ البريّة .
وصغيرتها تتمايل لتشرب من ماء النيل شربة هنية ..
وترسل رسالة أن النخلة الشامخة والممتدة الجذور فى أعماق الأرض متواضعة أمام عظمة النيل الخالد..
وصوت خرير الماء يحكى جزء من تاريخ النيل الخالد بحنينه وأنينه بأفراحه وأتراحه.
وموجات الماء صارت مويجات و مويجات من طول المشوار وعناء السفر وكثرة المعوقات الغبية ...
مويجات تتهاوى يمنة ويسرة تبحث عن الوصول إلى رشيد التاريخية ...حيث يلتقى البحران عذبه وأجاجه ويتعانقان بحرارة وإشتياق.
حيث يتلاقى الحبيبان بعد طول فراق وبعد رحلة بحث طويلة .بين هموم وغيوم بين ألام وآمال ...
سعت الموجات ومن بعدها المويجات أن تجد الطريق حيث أحضان الحبيب المشتاق ...
عانت من سدود وسدود ومرت فى الظلمات وفى النور وبحثت فى اليمين وفى اليسار ولكنها لم تتوقف يوما عن المسير لتستقى العشق من شفتي الحبيب المشتاق ...
تاهت فى بعض الأحيان وأبطأت المسير فى أحيان أخرى ولكنها أبدا لم تتوقف عن المسير تجاه الأمل المنشود ...
تبكى المويجة النيل العليل من المخلفات الآدمية .
وتشكوا للتاريخ وتبكى على الأطلال .
أطلال النيل الذى كان يشفى العليل ويبرىء السقيم ويروى الزرع ويخصب الأرض ويلون التربة بخضرة نضرة ندية........
كان الماء والسماد والدواء ..... ..
فعكر صفوه أهل الداء ..
فصار يشكوا مظلوميته للقاصي والداني
ويئن من مخلفات المصانع وصرف المجاري وطغيان ورد النيل الذى أوشك أن يحجب عنه الشمس والهواء ويكتم أنفاسه فى محاولة يائسة بائسة لقتله ولكنه النيل العصي على السنين رغم الأنين ..
ومع كل هذا مازال النيل واسع الصدر ومازال قادرا على غسل أثار العدوان وإحتواء الإعتداء ..مازال حلمه سابق لغضبه وصفائه غالب على عكره وقوته مسيطرة على ضعفه ..
هناك على مرمى البصر يقف التاريخ ممثلا فى جسر النيل ذلك الحارس الأمين ....
حارس الموجات وحامى الفلاحين قبل أن يتولى السد العالي مهمة التأمين ...
الجسر الترابى الذى كان الحصن الحصين .كان يحمى الفلاحين ويحضن النيل فى الفيضان فيكون الصدر الحنون والحارس الأمين على الموجات والمويجات حتى تصل إلى أحضان الحبيبت المشتاق وفى طريقها تنشر الخير والنماء تسقى وتروى العطاشى وتهدى الحيارى وتغير لون الأرض
وتبدوا خيوط الشيخوخة واضحة فى ملامح الجسر ويترك التاريخ بصماته على جبين الجسر المهموم بهموم الموجات وأنين السنين ....
وعلى شاطئ النيل الغربي كانت أشعة الشمس الدافئة تداعب وجه مصري الخمري ..وتشع الدفء فى قلبه الوردي ..
وكانت خيوط النمل البرى تسير من بين قدميه تحمل هموم العيش وترفع أوزانا أكبر من أوزانها الخفيفة وتعلن التحدي والتصدي لعقبات الأرض ومصاعب المعيشة ...
مصري ...
شاب من أرض مصر فى منتصف العشرينيات من العمر ...ملامحه مصرية بإمتياز.
بشرته الخمرية وشعره الأسود المعتدل لا هو الخشن ولا الناعم الذى ينساب على الجبهه .وجسمه المعتدل فى الوزن والطول وعينيه العسليتين الحانيتين تنمان عن ذكاء ممزوج ببحور من الحيرة والقلق وتلك الحسنة السوداء أسفل أنفه جهة اليمين وكأنها شامة الحسن ..
وتلك الشفتان الباسمتان فى وجه الغريب قبل القريب ..
قسمات وجهه تعبر عن الطيبة المصرية والحيرة الإنسانية والكرامة المهدرة المنسية
يحب الوحدة والتأمل أحيانا كثيرة ..قاسى على نفسه وأحيانا يجلدها بقوة بسياط الحقيقة ...يشعر بالغربة أحيانا مع كثرة الخلان والأحبة ومع ميله للوحده إلا أنه إجتماعى من الطراز الأول ..كثير الأصحاب متشعب العلاقات وقد ساعده على ذلك مرونته ومقدرته على التعامل إرتفاعا وإنخفاضا مع كافة المستويات الفكرية والإجتماعية ..
هادىء الطباع فى الغالب ولكنه فى أحيان أخرى عصبى المزاج لتوافه الأسباب ..
يكره الظلم مع عشقه أحيانا للظلام ..محب للنور ومرتبط بالنهار
حالم طامح واسع الخيال
يحمل على كتفيه همومه وهموم الآنام.. عاطفى رقيق القلب قريب الدمع ...ولكنه فى عنده صلب مغوار ...
قمة سعادته فى اللحظات التى يجد فيها نفسه ونفسه عند غيره
فدعوة من محتاج تجعله يملك الدنيا وما فيها وكلمة تقدير لمجهود تجعله يواصل الليل بالنهار
مصرى بإختصار شديد
هو كل الفصول فى وقت واحد..كل فصل فى أوانه
مع أننا فى زمان تأكل فيه فاكهة الصيف فى الشتاء
مثقف ..متنوع الفكر والمشارب...
ضالته الحقيقة ومبدأه الحق...
دائم البحث عن نفسه وعن الحقيقة ..
من أسرة مصرية بسيطة تمتلك قطعة من الأرض ما بين الجسر والنهر ومنزل صغير فى القرية ...
عاطفي وغارق فى الحب حتى النخاع ...حبه من نوع يبدو غريب . فالحب عنده ليس هذا الشعور الذى يربط ذكر بأنثى ولكن الحب عنده هو الحياة .....
مصري صاحب الكتاب ونادم الصحف والأخبار وعشق الشعر و الخطباء ..
وتحت شجرة الصفصاف
داعبت المويجات أحلامه وأيقظت ألامه وأماله من سبات ليس بالعميق لأن نفسه دائما متمردة مغامرة تهوى الإستكشاف والغوص فى الأعماق ...
أمسك مصري بالقلم لأنه شعر أنه يريد أن يكتب ...عن أي شيء يكتب ولما يكتب وإلى مدى سيظل يكتب ...؟؟
مصري كان يستمع للإذاعة من محموله الصيني الصنع عالي الصوت متعدد الإمكانيات ضعيف الجودة قليل العمر وهو شاهد عيان على الغزو التجاري لوطن مكلوم لا يجيد إلا أن يصبح سوق
للغث وللثمين ..
ليس له باع إلا فى الأخذ ويده التي تعطى أصبحت مصابة بالعجز تارة وبالشلل تارة أخرى ..
مع أن تاريخها مشهود بين أهل المشرق والمغرب ...
كان التليفون الصيني العجيب والتقليد مصدر تقليب المواجع والفواجع على مصري.
فتذكر القطن المصري الأصيل فى تاريخ ليس ببعيد...........
وكيف أصبح طويل التيلة منزوع القيمة ..
تقاذفت المويجات ذاكرة مصري وعادت به سنوات وسنوات إلى الطفولة البريئة إلى بداية الرحلة التي لم يختارها ولكنه وجد نفسه يسير فيها ..
صحيح أن السير كان بإرادته الحرة تحت الإرادة العليا لرب البرية ولكن بداية الرحلة لم يكن له بها مشيئة ...
بداية رحلة البحث عن المحبوبة ..
وقبل أن ينفصل مصري عن الواقع ليغوص فى بحور الذكريات
وليخرج مكنون نفسه التي ضاقت جنباتها بما تحوى من أسوار وأسرار ...
نظر مصري فوجد مويجة مرتفعة لبعض الشيء وبطيئة الحركة إلى حد ما كأنها لا تريد أن تغادر من أمام عينيه
وشم لها رائحة غريبة منافية لنواميس الطبيعة التي تقرّ أن الماء لا لون له ولاطعم ولا رائحة .....
رأت عين مصري هذه المويجة غير كل المويجات لها رائحة مميزة وحركاتها غير تقليدية وشكلها مختلف مع إنسيابية طبيعتها التكوينية ...
رأها حائرة هائمة ومع حيرتها تواصل المسير .
.يبدو بصرها زائغ هنا وهناك ولكنها لا تنظر للخلف مطلقا وتواصل المسير ..
رأها حانية عاشقة ومع عشقها تأبى إلا أن تفارق شط المعشوق ...نظر إليها بعمق فرأى وجهه معكوس على ضفتي خصرها
وكأنها مرآة ...
نعم مرآة ولكنها غير كل المرايا فهي لا تعكس المظهر ولكنها تغوص فى الأعماق وترسم صورة صادقة لمكنون النفس وبنات الأفكار..
رأى مصري فيها ماضية وحاضره وحاول من خلالها إستشراق مستقبله ...
كيف لا ولمصرى تاريخ مع مويجات النيل وخاصة عندما تعانق الموج فى موعد اللقاء ...
إنها مرآة عجيبة وكل أمرها غريب وتحتاج لمهارة لسبر غورها وقراءة الصورة التي أظهرتها..
هناك علاقة ما نشأت بين مصري وهذه المويجة بالذات علاقة غير معلومة الأبعاد وغير خاضعة لقوانين العقل والمنطق المجردة
قد تبدو علاقة غير منطقية ولكنها حقيقية ..علاقة الذات بالذات والنفس بالنفس ..ربما تكون كعلاقة الروح بالجسد...
هل تجمعهما صدفة فى قابل الأيام ....؟
وهل للمصير المشترك بينهما مكان فى دفاتر الزمان ...؟
من شدة إرتباط مصري بالمويجة ورائحتها والتي شم فيها رائحته ورأى فيها نفسه ...
سمى المويجة العجيبة..... مصرية......
لأنها شعر أنها جزء منها وتحمل رائحته ويئن ظهرها بحمل همومه ويبدو أنها تسير فى نفس الطريق ...!!!!!
وذكرته بمصرية الغائبة الحاضرة ...
أين أراضيكى يا مصرية ....ألم يحن بعد موعد اللقاء ..؟
ودّعت مصرية مصري وواصلت المسير تجاه المصير ..
سارت فى طريقها المحتوم حاولت أن تعاند إتجاه السير وتستدير لترجع تلقى نظرة الوداع على مصري ..
لتعانقه وتودعه ..لتعطيه القبلة الأخيرة لتنظر إليه النظرة الاخيرة ...
ولكن هيهات هيهات ..
فالمصير محتوم والطريق مرسوم والأقدار نافذة ....
ظلت رائحة مصرية وشكلها ومشيتها فى وجدان مصري ...
مسك مصري بالقلم وفتح الدفتر وحاول اللحاق بمصرية من خلال السير للتاريخ ...والغوص فى أعماقة
سافر بعيدا...بعيدا.....بعيدا ...
ذهب بعيدا حيث عبق التاريخ ورائحة الماضي ....
وبدأ القلم يسطر أول فصول الملحمة ...ملحمة مصري من تحت شجرة الصفصاف وعلى ضفاف النيل الخالد ......
ليست هناك تعليقات: