في رحلتي الأربعينية لاحظت اختزال البعض مفهوم الآخر في صاحب العقيدة المختلفة عند ذوي المرجعيات الدينية، والعرق المختلف عند ذوي المرجعيات القومية، وصاحب جواز السفر المختلف عند ذوي المرجعيات القطرية والوطنية، ولكن الحقيقة تختلف عن هذا المفهوم الضيق فكل عقل غير عقلي ينتج عنه آخر، مهما تشابهنا سنختلف وإن كنّا توأم متماثل، وقضية التعايش وقبول الآخر تتجاوز الآخر العقائدي والدليل أن التعصب ورفض الآخر ينسحب تدريجيا لدائرة أضيق، فبعد رفض الآخر العقائدي ننجر لرفض الآخر المذهبي وما كان بين الكاثوليك والأرثوذكس وما بينهما وبين البروتستانت، وما بين السنة والشيعة والإباضية حقيقة كاشفة لانتقال الصراع حتى داخل الدين الواحد ثم داخل المذهب الواحد ثم تضيق الدائرة ليصبح رفض الآخر يشمل أي فكر أو فهم أو تفسير مختلف، وما العداء والرفض بين السلفية الوهابية وما يطلق عليه السلفية الإصلاحية أو الإخوان وبين السلفية والأشاعرة وما بينهم وبين الصوفية إلا نموذج كاشف لأن منهج التطرف والتعصب ورفض الآخر لن يقف عند حد دين أو مذهب أو فكر بل سيمتد ليرفض كل عقل يفكر بطريقة مختلفة ويشتعل صراع عبثي لا يثمر إلا الدمار والخراب ولن يجتمع الناس وسيظلون مختلفين حتى يفصل الله بينهم يوم الفصل تلك سنّة وحقيقة لو عقلها الفرقاء لتعاملوا برفق مع الآخر.
في رحلتي كنت هناك بين ضفاف الإنجيل وحاورت مسيحيين ومن الجمل التي لن أنساها ما ذكر لي صديقي أستاذ مقارنة الأديان العربي العراقي المسيحي الدكتور يوسف قدو عندما سألته عن الآخر فقال:
لولا الآخر لما تأتى لنا الحوار، لولا الآخر لما تحددت معالم الأنا، الآخر هو الذي يرد على الأنا وحشتها.
طرقت باب مذهب آل البيت بحثا عن معشوقتي الأولى وهي الحقيقة وحاورت الشيعة واتفقت معهم واختلفت وزاد رباط الحب بيني وبينهم ولا أنسى مقولة خالدة لسماحة العلامة السيد علي الأمين عندما سألته عن الفرقة الناجية فقال :
الفرقة الناجية هي التي تعمل على نجاة الأمّة بأسرها من الفرقة والفتة، وليست الفرقة الناجية هي التي تحتكر النجاة لنفسها وأتباعها،فكيف تزكي فرقة نفسها بدون العمل على إرساء قواعد الأخوّة في أمتها وإخراجها من النزاعات والصراعات التي تعصف بها والله يقول (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى) و(إن هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ذهبت للسلفية وأعجبني انضباطها وإزداد ظمأي من جفافها فزرت حدائق التصوف ورأيت بعين بصيرة الصوفي الذي لو رأيته بعين الظاهري لكفرته، وتجولت في حركية الإخوان وما بين الفكر والجماعة والتنظيم كانت الرحلة وأتعبني التدين الغائب عن الدين فكان لا بدَّ من زيارة الماركسية ومن خلفها الإشتراكية والعروج على فكر العصر الليبرالي ووجدت عند فلسفة روسّو ما غاب عن الكثيرين من بيئتي ومحيطي ووجدته أحد أهم مرايا نفسي .
دخلت كل بستان بعين الشك وباستعداد تام لقبول كل نور أجده وأن أنفض عن نفسي كل ظلام علق بها ميراثا أو جهالة أو ضعفا أو غيابا لما هو أنور.
في رحلتي لم أجد فكرا أو مذهبا أو معتقدا شيطانيا بكامله بل وجدت مفكرين ومتمذهبين ومتدينين شياطين يمتطون الدين أو الفكر لتحقيق شهواتهم ومكاسبهم ، وجدت علمانيين متدينين وليبراليين مسلمين ومسيحيين منفتحين وسلفيين معتدلين وإشتراكيين ويساريين مؤمنين، وكما كان قوس قزح برهان على التدرج والتنوع والتكامل ووحدة الأصل أدركت فشل نظرية الأبيض والأسود في التعامل الإنساني .
هنا وفي محطة الأربعين كان السؤال الأهم أين أنت من كل هؤلاء الفرقاء وتلك الأفكار وهذه الإتجاهات ؟
أنا إنسان لا يحتويتي أي من هذه الأفكار والإتجاهات وأحتويها كلها ولي بصمة ربما ليست الأفضل ولكن لا تشبه أي بصمة أخرى فإن لم تكن إنساني فإنساني .
ليست هناك تعليقات: