من زرع الخطيئة
أثار فوز الراقصة فيفي عبده بجائزة الأم المثالية موجة من
الانتقادات اللاذعة والسخرية وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وتم تضخيم الأمر في
ظل مرار طافح ودماء تنزف في أرجاء أمتنا المنكوبة ،وأنا في هذه السطور لست بصدد الدفاع
عن فيفي عبده أو منحها الجائزة ،ولا من هؤلاء الذين استلوا كرابيج العفة والفضيلة فجلدوا
بها ظهر حصاد زراعاتهم ، ولكن أنظر للأمر بمنظور مختلف ، ومن عدة زوايا في محاولة لتسليط
الضوء على عيوب مجتمعاتنا التي أنا أحد أفرادها وأحد المنغمسين في خطاياها .
لو أن كل منتقدي فيفي عبده وفوزها وهذا العدد الضخم الذي
ثارت ثائرته صادق في ثورته متسق مع نفسه ثائر على عيوبه لكنت أسعد الناس بهم و أحد المهللين لهم ، ولم تكن
مجتمعاتنا بهذا الحال الذي لا يخفى على أحد، ولكنها الازدواجية العربية التي أصابتنا
بالانفصام بين ظاهر مرتبط بالمظهر والوعظ الأفلاطوني وباطن مرتبط بالبداوة وقيمها المختلفة
والمتخلفة أحيانا
من صنع فيفي عبده ؟
ومن أين أموالها
ونجوميتها إن جاز التعبير ؟
كم واحد من المنتقدين استمتع خلسة أو علانية ببضاعة فيفي
عبده؟
وحتي لا أكون من ألئك المنفصمين فأنا من ألئك الذين شاهدوا
رقص فيفي عبده وهنا لا أبرر خطأ ولا أدعو لرذيلة ولا أجاهر معاذ الله ولكن أقر بواقع
مجتمع منفصم يطلق سهام النقد على كل من حوله وينسى أو يتناسى أن يقف أمام نفسه .
الكل ينتقد ويهاجم وقل من يهاجم نفسه ويحدد دوره في الخطيئة
الكبرى التي أطاحت بنا وجعلتنا خلف الأمم .
فيفي عبده وغيرها صناعة المجتمع الذي ضاعت هويته بين أقنعة
تدين زائفة خالفت الفطرة وادعت فضيلة وأضمرت كل القبح وما بين آخرين ارتدوا العري لباسا
ونظّروا له وتوهموا أنه التقدم القادم من بلاد العم .
أيها السادة أنها أزمة مجتمع ضاعت فيه كل المقاييس وانحرفت
المعايير وسادت الازدواجية وأنهك الإنسان الصراع الداخلي وكثرة الأقنعة .
في مجتمعات الفضيلة المزعومة أعلي نسب مشاهدة أفلام إباحية
ولن أتحدث عن التحرش وولائم الأعياد ولا عن
ملايين الأقراص المنشطة والمخدرة ولا عن الاغتصاب
والشذوذ في شعوب أدمنت مهاجمة الجنس وهو أهم
ما يشغلها .
في مجتمع أصبح الحلم أن تكون لاعب كرة أو مغني أو راقصة في
ذات الوقت الذي أعطى فيه الغرب كل ذي حق حقه ، كل مجتهد ،كل نابغة ،كل موهوب ،كل متقن
لعمله له مكانه ومكانته .
ليست أزمة فيفي عبده ولا جائزتها بل هي أزمة أمة ضاعت وتاهت
لا هي متدينة ولا هي ملحدة ،ولم تعد تعي من دينها سوى القشور ، وتغوص في ظلمات الجهل
والجهالة ،عاندت الفطرة وحرفت مفاهيم الدين ، وأصابتها الميوعة وليس لها لون واضح سوى
تذيلها للأمم بوضوح منقطع النظير .
الراقصة لم تسعى لأحد بل سعى إليها من جعلوها نجمة فهي نتاج
للمجتمع الغني فيه ربما يدفع الكثير من أجل المشاهدة القريبة أو المجالسة والفقير يكتفي
بالشاشات والنت والمجلات .
من ناحية أخرى لو فاز بالجائزة فنان رجل هل كانت نفس الموجة
من الانتقادات أم أن ذكورية المجتمع تغلب على طباعه .؟
وأيهما أقبح الرقص بالجسد أم الرقص بالكلمات والمواقف والمبادىء
..؟؟
الرقص بالنهود أم الرقص على جثث الأبرياء وأوجاع المرضى وآلام
الفقراء وأحلام البسطاء ومصائر الشعوب أقبح وأكثر ضرر على المجتمع ،وكم راقص من هؤلاء
يتصدر المشهد وتصفق له الأيادي التي تمسك بالكرابيج .
خلاصة القول لست سعيدا بمنح الجائزة للسيدة فيفي عبده ولكن
حزني أشد على الازدواج المجتمعي والتعامي عن حقائق وجوهر الأزمات وعدم الاعتراف أن
العيب فينا وليس في الزمان ؛ لأن الاعتراف هو بداية تصويب المسار .
من هذه السطور أدعو لوقفة مع النفس وحسابها على دورها في
الانحطاط الذي أصاب أمتنا .
دعوة للاعتراف بازدواجيتنا وعقد مصالحة بين الوعي واللاوعى
،مصالحة مع الذات يعقبها مصالحة مع المجتمع .
دعوة للراقصين على تاريخنا والذين تاجروا بقضايانا والذين
يشربون نخب دمائنا ويتراقصون الآن على جثث أوطاننا المقسمة المنهكة ،دعوة لأصحاب الحق
أن يكسروا الكؤوس ويهجروا الحانات وما أكثر الحانات التي لا يوجد بها كأس ولا راقصة
بالمعنى التقليدي ولكنها جعلتنا مخمورين حتى صرنا مجاذيب .
دعوة لأهل السلطة وأهل القلم والخطابة وأهل الفن وللأزهر
الغائب ولكل المؤسسات والأشخاص المنوط بهم صياغة وصيانة الفكر . رفقا بنا فليس بعد
الهاوية من سقوط ..!!!!!
بقلم د.عاطف عتمان
ليست هناك تعليقات: