عام 1786، وحين أراد العثمانيون استمالة
أبناء مصر وإثارة الحمية في عروقهم اليابسة، أرسلوا سفير نواياهم غير الحسنة فاجتمع
بنفر من العلماء ليخطب فيهم: "كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران، وترضونهم حكاماعليكم
يسومونكم العذاب والظلم؟ لماذا لم تجتمعوا عليهم وتخرجوهم من بينكم؟"
لم يكن حسن باشا قطعا طيب النية أو خالص
الطوية وهو يبسط رداءه لعلماء مصر ومشايخها، ويجلسهم إلى جواره ركبة بركبة، فتاريخ
العثمانيين أكبر دليل على علو شواربهم وأكتافهم إذا ما جمعتهم المجالس برعاياهم المصريين
الذين لم يكونوا يرفعون وجوههم في حضرة البكوات والأغوات إلا ليجففوا ما تساقط من جٌبُنِهم
الكادحة بكسر خبز يابسة لم تفلح في إسكات قرقرات البطون الخاوية. ولأنني لا أريد أن
أتطرق هنا إلى تفاصيل العلاقة غير المشروعة التي باركها المشايخ إبان حكم السلاطين
فأُتهم في مروأتي أو أُطعن في عقيدتي، سأعود إلى رد المشايخ ليحكم القارئ بنفسه على
طبيعة فكر علماء الطليعة في عصر الركود، وكيف أنهم كانوا يجدون مبررا لكل احتلال.
بدلا من أن يرد علماء مصر وخواصها على استفزاز
المبعوث السلطاني بكلمات تليق بوجهه المنتفخ وحاجبيه العريضين، ضم الرجال أفخاذهم،
وقالوا بأصوات متهدجة: "هؤلاء - أي المماليك - عصبة شديدة ويد واحدة، وإن سوقة
مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم." وكبرت كلمة خرجت من أفواههم.
يومها، لم يكن "سوقة" مصر يجيدون
التحلق إلا حول أقدام الولاة والعلماء، ولم يكن في الكون فسحة إلا فوق سواد الحقول
وساحات كتاتيب بائسة تعلمهم القراءة والكتابة والرضا والبؤس وأن الله على نصرهم لقدير،
وقد أدرك ذوي الشوارب العالية من الأتراك أن السبيل الوحيد لاسترقاق المصريين واستعبادهم
يكمن في لي النص القرآني ليوافق أطماعهم الاستعمارية في قمح المصريين ونيلهم، ولم يجدوا
من الحلفاء من يعينهم على رقاب الدهماء خيرا من العلماء.
وعلماء عصر الانحطاط لم يكونوا بالطبع كنظرائهم
عند الأتراك والمماليك، بل كانوا كعلماء بني إسرائيل لا يجيدون إلا مط الكلمات في أفواههم
وقراءة سير الأولين وتلخيصها، وإخراج النصوص عن مواضعها للاحتفاظ بالعمامة فوق الرؤوس
الفارغة أطول فترة احتلال ممكنة. وهكذا حكمنا الأتراك ألف عام بائسة، تفرغوا فيها لإدارة
شئون بلادنا والدفاع عنا، وبقدر تمسكهم بخيراتنا كان تمسكنا بهم ظنا منا أنهم يحمون
بيضة الدين ويدافعون عن أرضنا، وهكذا تحول المحتل العثماني إلى حام، في حين ظل المصريون
مجرد "سوقة" لا يحكمهم إلا تركي ولا يتحكم في مقدراتهم إلا مستعمر.
وذهب الأتراك وبقي علماء الهزيمة الذين
لم تتغير نظرتهم للمصريين "السوقة" الذين لا يمتلكون حق تقرير المصير أو
القدرة على تسيير شئون بلادهم. وتحولت إفتاءات العجز إلى عقيدة في نفوس المستضعفين
من أبناء مصر، فما على المصريين الشرفاء إلا الميل يمينا أو التحول يسارا لوضع أكتافهم
تحت حذاء المستعمر الطيب القادر على دفع الكفار عن بلادنا المحتلة أصلا ليركب صهوة
الوطن في مشهد مخز وفاضح.
لهذا، ورثنا الميل وفقدنا الاتزان ونحن
نسير على طريق لم نمهده ولا نعرف إلى أين ينتهي بنا. يكفينا أن نعرف أن صاحب العصا
والصولجان رجل من بني عقيدتنا وإن ظلم وفسد وطغى، فنحن وأبناء عمومتنا دوما مع الغريب
الذي يستطيع أن يحتمل ضعفنا ويواري سوءاتنا ويقف عند الحدود ليحمينا من عدو ليس أقل
منه سوءا. وطالما أن بيننا من علماء السلطة من يمسح بدهن التملق أكتاف القائد المغوار
ولا يرى في شعبه إلا مجرد "سوقة" عاطلين عن الفعل، فسوف يظل المصريون أسارى
نهضات كاذبة ولو كره الوطنيون.
لهذا لا أتوقع أن تنفض مصر يدها من أمريكا
وتقف على قدمين من ثقة إلا إذا تخلصت من علماء السوء الذين يرهنون عند المستعمر رقاب
أحلامنا بحجة أننا غير قادرين على الفعل وأننا في حاجة دائمة إلى أوصياء. نحلم أن تخرج
مصر من قفص الوصاية الدولية وأن يوقن المصريون أنهم ليسوا مجرد سوقة وأنهم لا يحتاجون
إلى قمح من الشرق أو طائرات من الغرب لتصنع إرادتهم، وأنهم يستطيعون الدفاع عن شرفهم
المستباح وإن برر علماؤهم البغاء والانبطاح والتعري على رصيف عالم لا يحترم إلا الأقوياء
ولا ينصر أحدا إلا لغاية. نعرف أن الخلاص من ربقة الوصاية أمر ليس بالهين لا سيما إن
تعلل بنصوص محرفة أو فتاوى منحرفة، ونعرف أيضا أن التحرر الذي يسكن قفص المناشدات ويحلق
في سماء الجعجعات الإعلامية لا يعيش طويلا. لهذا نناشد علماء هذا الجيل استنهاض همته
الهابطة، وبعث روح التحدي في عروقه اليابسة ليسير المصريون على خطى الشعوب التي تحررت
من إسار فتاوى الاسترقاق وعرفت طريقها نحو الحرية الحقة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
إديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات: