وشاءت الأقدار
أن تتخلى السمكة عن الماء ليالي
وأيام
ولم يعد هناك من دواء لداء البعاد سوى الصبر تتجرعه
كاسات وكاسات
وكان العزاء ومصدر السلوى
ومهون البلوى
ذلك الجهاز العجيب الذي طوي المسافات وتجاوز الأزمان وإن كان غالى
التكلفة لإرتفاع أسعار المكالمات
فلابد أن تحمل
إلى جواره فى جيبك ذلك الكارت الرخيص التكلفة كارت الإتصالات من الكبائن المنتشرة
فى الشوارع
ويبقى الجهاز الذي بدأ
ينتشر رويدا رويدا ..
حتى صار كالبطاقة الشخصية .
جهاز الهاتف النقال هو السلوى للحاجة فاطمة وحلقة
الوصل مع مصري فى الغربة التي لا تدرى كيف ستتحملها ولكنها الضريبة الإجبارية
لتحقيق حلمها ...
حان اليوم الموعود
وبدأ مصري يحضر أمتعته قاصدا المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة
والكائنة بمحافظة الجيزة ...
حمل مصري حقيبته وقبل يدي أمه وإحتضنها وقبّل رأسها
وقبل أن يطلب الدعاء منها إنهالت عليه الأدعية من قلب صادق ونفس تمتلئ بالحب الفطري ...
الحاجة فاطمة ..
ربنا يحفظك يا بني
خلى بالك من نفسك وركز في مذاكرتك وطمنى كل يوم على أحوالك ..إتغطى
كويس لازم تفطر قبل ما تنزل الكلية ....
مصري ..
حاضر يا أمي لا تقلقي ..خلى بالك أنتي من صحتك
ذرفت العين العبرات وتمالك مصري وأمه نفسيهما ..
فالمشوار طويل وتلك هي الخطوة الأولى ...
وما أن خرج مصري من البيت وعين الأم جادت بالدموع
الغزيرة
ولسانها يلهج بالدعوات الصادقة ...
الحاجة فاطمة...
تحلم بذلك
اليوم الذي تجنى فيها ثمار ما زرعت ..وترسم فى خيالها صورة الدكتور مصري وتشتكى له ألام مفاصلها وتنتظر الشفاء على يديه من الأسقام ..
وتحلم بالراحة من عناء الأيام ..
على صديق مصري دخل كلية العلوم جامعة الإسكندرية ومحمود دخل كلية الطب البيطري بجماعة
الإسكندرية .
التقى الأصدقاء على رصيف محطة القطار ...
ولكن الإتجاهات لم تكن واحدة ..
فمصري على الرصيف الشرقي ينتظر القطار المتجه لقلب العروبة قاهرة المعز
...
ومحمود وعلى على الرصيف الغربي ينتظران القطار المتجه
لعروس البحر الأبيض المتوسط .
على ..
ينادى على مصري خلينا على إتصال وأشوفك فى الأجازات
...
مصري ...
إن شاء الله
يا بختك أنت ومحمود مع بعض ..
محمود ..
.يشير بأصابعه الخمسة من شر حاسد إذا حسد ..
حضر القطاران فى ميعاد واحد تقريبا وفى إتجاهين
متعاكسين وحجب جسم القطاران الرؤية بين الأصدقاء ..
وحان وقت بداية الرحلة والتي بدأت بإتجاهات مختلفة ..
يسلك كل من الأصدقاء الثلاثة إتجاه ما ...
ربما يكون إختياره وربما يكون القدر هو صاحب القرار في
إختيار رفيق الرحلة والمسار..
ركب مصري القطار في الدرجة الثالثة ...
وهو ينتظر الوصول للقاهرة
ويفتح جناحية ويستعد
للتحليق فى سمائها باحثا عن الحقيقة ..
باحثا عن مصرية ..
ولم يكن يتصور أن القطار سيكون جزء مهم من تلك
الحقيقة التي أنهكته بحثا وتحليقا .
فى الدرجة الثالثة .
ذات الكراسي الخشبية المضلعة والشبابيك التي تعانى
معاناة الوطن ...
إما أنها لا تعمل أو بدون زجاج أو مكسورة .
وغرفة حديدية صغيرة بين عربات القطار يطلق عليها
الحمامات والتي تكنى أحيانا ببيوت الراحة ولا يدل أي من معالمها أنها حمامات أو
مصدر راحة سوى تلك الرائحة الكريهة
المنبعثة منها
وبقايا المناديل الورقية التي تسهم فى رائحة المكان
...
ويوجد فى أعلى عربة القطار على الجانبين رف طويل من
الخشب المحمول على زوايا حديدية قوية .
.وهو مخصص لحمل الأمتعة ..
ونظرا للزحام الشديد فلا توجد مقاعد خالية فضلا عن
عدم وجود مكان للوقوف الآمن والمستريح بعيدا عن الباعة الجائلين
وسطوة المتسولين وصعود ونزول الركاب من محطة إلى أخرى
...
المسافة طويلة حيث يستغرق القطار ما يزيد عن الثلاث
ساعات حتى يصل باب الحديد فى قلب ميدان رمسيس الذي يتوسط قلب القاهرة ...
نظر مصري الرفوف الخشبية فوجدها مرصعة ليس بالأمتعة
بل مرصوصة بركاب جالسين عليها بجوار سقف القطار الذي
يشبه القبة و وتتوسطه أماكن لمبات الإضاءة التي تشهد أنه فى يوم من الأيام كانت
هناك إضاءة
وتتدلى أقدامهم إلى الأسفل
فوق رؤوس الجالسين على الكراسي ومن هنا كانوا يخلعون أحذيتهم ويكتفي الجالسون على الكراسي برائحة الجوارب
...!
نظر مصري لهذه الأرفف وبدأ يبحث عن مكان عليها حتى
يصعد ويجلس ويخوض تلك التجربة للمرة الأولى ..
فمع عدم مناسبة المكان لجلوس البني أدمين وعناء
إنحناء الظهر طوال الطريق
وتأذى الجالسين فى الأسفل من سكان الأدوار العليا.
ولكن مصري عاشق للسماء يحب التحليق ويريد أن ينظر من
أعلى فيرى الصورة كاملة وواضحة ..يريد أن لا يكون جزء من الصورة حتى يراها بوضوح
وموضوعية ويمتلك زوايا رؤية عديدة ومتنوعة ..
ونظر إليه أحد الجالسين على الرف الأمامي وأفسح له
المجال فأعطاه مصري حقيبته ..
ثم إستأذن ووقف على حافة الكرسي ومد الرجل يده لمصري
وساعده على القفز ليعتلى الرف ويجلس بجواره ...
خلع مصري حذائه ووضعه بجانب الحقيبة وحظي بوافر الحظ
أن وجد مكان يقرفص فيه حتى الوصول .....
وظلت عيني مصري تتجولان يمينا ويسار تبحث عنها ...
ألم يحن بعد موعد اللقاء ؟
...أين أنت أيتها الحورية ؟
...أين أنت يا مصرية؟
أتاح المكان المرتفع لمصري فرصة ذهبية يرى الركاب من
فوق ويعيش مع كل ركاب العربة يسمع ويشاهد ويرى ويشهد للتاريخ
فكانت عربة القطار بمثابة وطن صغير وطن بأناسه
الحقيقيين الناس الترسو والحرافيش ...
الدرجلة الثالثة ...
فى القطار حياة متكاملة ..
فيه اللص الذى يتحين الفرصة ليسرق ضحية سرقها الزمن
ونصبت عليها الأيام أو يسرق بيضة أو قطعة جبن فلاحي من تلك الفلاحة صاحبة الجلابية
السوداء والأيادي الخشنة والضحكة الفطرية التي تعاند بها الهموم وتحارب بها فى وجه
الظلم وتنير أسنانها المضيئة الظلمات والتي
تحمل سبت به الجبن والبيض وتسعى للمدينة متمنية العودة بما يسد رمق ذويها ...
وسبحان الله ..مع همومها وغمومها وشقائها من أجل لقمة
العيش
ومع التعب البدني ..من حمل للسبت وما فيه وزحام
القطار وطول المشوار وضآلة المقابل وظهور
خشونة المعيشة على يديها .
إلا أن الرضا والبسمة لا تغادر شفتيها ..
وتتبادل أطراف الحديث والنكت مع جيران القطار كأنها
فراشة تطير وتداعب الزهور فى رقة ورشاقة .!!!
ودخل بائع القازوزة ..
حاجة ساقعة بيبس بيبس....
بملابسه المبتلة وجردل الساقع على كتفه يمسكه بيد ويمسك
الفتّاحة ويخلى الطريق باليد الأخرى
ولا يستطيع غيره دخول
القطار فإنها مملكة معلمه الإمبراطور
-إمبراطور
الحاجة الساقعة وأحد حكام مملكة القطار وجابي الإتاوات ومقسم الأرزاق –
الذي يوزع عليه وعلى زملائه الغنائم ..
والحاجة الساقعة فى ظل عدم وجود الماء وفى ظل تقاطر
حبات العرق قد تكون الملاذ لمن لا يحمل زجاجة ماء من الفقراء ليروى عطشه فى حر القطار ومع سخونة
أنفاس الركاب ..
بائعة الجبن.....
تنادى على بائع القازوزة ..إفتح واحدة برتقال ..
بائع القازوزة حاضر يا ست ويسمع مصرى
فرقعة فتح الزجاجة ..
بائعة الجبن ..
تعزم بالزجاجة على من بجوارها إتفضلوا ..ويرد الجميع بألف هنا ..
وبمجرد إنتهاء بائع القازوزة من تلك الجولة والإنتقال
لعربة أخرى يعقبه بائع الشاي ...
حاجة سخنه شاي شاي ...
ومن بعده بائع الحلوى والحمصية وكأنه نظام مرسوم كل يسير فى فلك محدود ....
ويجلس مصري يتابع من أعلى وفجاءة تدخل سيدة تمسك خشبة.. عمرها فى الأربعين وتلبس
جلابية سوداء يسيل بعض اللعاب من بين شفتيها ..
من هذه السيدة ؟
..ولماذا تمسك بهذه الخشبة ؟؟
أنه نوع جديد من التسول بالإكراه ..
نعم بالإكراه ..
هذه السيدة تطلب المال من ركاب القطار وتحاول تقبيل
كل راكب حتى يعطيها ...
ونظرا لمنظرها وللعابها الذي يسيل فهي محل اشمئزاز من
الجميع
ويضطر البعض لإعطائها النقود من بعيد حتى يتجنب تلك
القبلة اللعينة ..
ومن لا يستجيب لابتزاز القبلة تضربه بالخشبة التي تحملها
فى يديها ...
تسول بالإبتزاز أحيانا وبالإكراه أحيانا أخرى
ويا لسخرية القدر ..
أموال تنفق من أجل قبلة وأموال تنفق من أجل تحاشيها
...
المتسولة ...
حاجة لله وتذهب لبائعة الجبن وتقول لها حاجة لله ..
بائعة الجبن ..
يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم ..هو كل يوم
..الله يحنن عليكى تأخذى بق برتقال ..
فتأخذ ضربة بالخشبة من المتسولة تحاول تفاديها
بتمايلها برشاقة ..
ويدخل ذلك العجوز صاحب النظارة السوداء والعصي
الخشبية
رافع رقبته كأنه ينظر للسماء وتوحي هيئته بأنه كفيف
ويبدأ
المشوار بالصلاة والسلام على النبي العدنان ويطلب المساعدة للعاجز الغلبان وينهال
دعاء فى اليمين وفى اليسار ..
الله ما يحوجكم ..الله يشفيكم ..الله يكفيكم شر
البلاء
لاحظ مصري أن كل دعواته لدفع البلاء والتذكير بشر
القضاء
تحذير من النار ولا تقترب لتبشر بالجنة ...!!
ليست هناك تعليقات: