لا شك في أن الانتخابات و البيعة و الشورى ، و الإستماع إلى رأي الخِصم .. من أهم الصفات المعروفة في صميم الإسلام ..
و التعددية في الرأي أساس في الإسلام .. بينما الإنفراد بالرأي و الديكتاتورية و القَهر .. أمور مرفوضة في الإسلام جُملةً و تفصيلاً .
و يجب أن يفهم كل مسلم .. أين هو ؟ و مع مَنْ ؟ و ضِد مَنْ ؟
و سوف يخسر المسلم كثيراً إذا وقف ضد الديمقراطية ، بل سوف يخسر دينه ، و سوف يخسر نفسه .
و الحقيقة أن الديمقراطية ديانتنا ، و قد سبقنا غيرنا إليها منذ أيام نوح ( عليه السلام ) .. الذي ظل يدعو قومه بالحُسنى على مدى تسعمائة سنة من عمره المديد .. لا قوة و لا سلاح إلا الرأي و الحُجّة ، يدعوهم بالكلمة في برلمان مفتوح .. يقول فيه و يسمع .. بينما هم يسخرون منه و يهددونه بالرجم .
في تلك الأيام كان هؤلاء الهمَج هم أجداد أجداد مستعمري اليوم ..
و كان نوح النبي ( عليه السلام ) هو رسول الإسلام و المتحدث بلسانه ، و حينما خرج النبي محمد ( عليه الصلاة و السلام ) في آخر سلسلة الأنبياء .. مازال الله يقول له الشيء نفسه :
{ فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ } ( الكهف – 29 )
{ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } ( فاطر - 23 )
{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) } ( الغاشية )
{ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } (ق~ - 45 )
و تلك هي الأصول الحقيقية للديمقراطية .. فهي تراث إسلامي .
فإذا قالوا لكم : الديمقراطية .
قولوا : الديمقراطية لنا .. و نحن حملة لوائها ، و نحن أَولَى بها منكم ..
و لكنهم سوف يلتفون ليخرجوا بمكيدة أخرى فيقولوا :
إن الإسلام ليس فيه نظرية للحُكم .
و سوف نقول : و تلك فضيلة الإسلام و ميزته .. فلو نص القرآن على نظرية للحُكم لسجنتنا هذه النظرية كما سجنت الشيوعيين ماركسيتهم فماتوا بموتها ..
و التاريخ بطوله و عرضه و تغيراته المستمرة ، و حاجته المتجددة المتطورة لا يمكن حشره في نظرية ..
و لو سجنته في قالب .. لا يلبث – كالثعبان – أن يشق الثوب الجامد و ينسلخ منه .. و الأفضل أن يكون هناك إطار عام .. و توصيات عامة .. و مبادئ عامة للحُكم الأمثَل ..
مثل :
العدل ، و الشورَى ، و حرية التجارة ، و حرية الإنتاج ، و احترام الملكية الفردية ، و قوانين السوق ، و كرامة المواطن ، و أن يأتي الحُكّام بالإنتخاب و يخضعوا لدستور .
أما تفاصيل هذا الدستور .. فهو ما سوف يخضع لمتغيرات التاريخ .. و هو ما يجب أن يُترَك لوقته .
و الأيديولوجيات التي حاولت المصادرة على تفكير الناس و فرضت عليهم تفكيراً مسبقاً ، و نهجاً مسبقاً .. قال به هذا أو ذاك من العباقرة .. ثبت فشلها .
و هذا ما فعله القرآن .. فقد جاء بإطار عام ، و توصيات عامة ، و مبادئ عامة للحُكم الأمثل .. و ترك باقي التفاصيل لاجتهاد الناس عبر العصور .. ليأتي كل زمان بالشكل السياسي الذي يلائمه .
و في خِضَم الإجتهاد الإسلامي سوف تجد محصولاً عظيماً تأخذ منه و تَدَع .. من أيام : الشيخ محمد عبده و الأفغاني و حسن البنا و المودودي .. إلى زمان : مالك بن نبي و المهدي بن عبود و الزنداني .. إلى : إبراهيم بن علي الوزير و الشيخ محمد الغزالي و الشعراوي و يس رشدي و الدكتورين محمد عمارة و كمال أبو المجد ..
موسوعة من الفِكر سوف تمُد مَنْ يقرأها بمدد من الفهم لا ينفَد .
و السؤال الذي يخرج به البعض من وقت لآخر :
ألا يُحَرِّم الإسلام على المرأة أن تعمل ؟ و هم لا يكُفون عن ترديده .
و أقول لهم : هاتوا آية واحدة من القرآن تُثبِت كلامكم .
و الأمر القرآني للنساء بالقرار في البيوت كان لنساء النبيّ .
و كان مشفوعاً في مكان آخر بالآية :
{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء } ( الأحزاب - 32 )
و تلك إذاً خصوصية لزوجات الرسول ( عليه الصلاة و السلام ) .
و هل رأيتم زوجة كلينتون تعمل .. أو زوجة بوش لها بوتيك ؟! ..
إن كل واحدة منهما عملها الوحيد زوجها .. و هُن زوجات رؤساء علمانين .. فما بال زوجة سيد البشر و خاتم الأنبياء صاحب الرسالة الكُبرَى .. كيف يجوز أن يكون لها عمل آخر غير زوجها ؟ .
الخصوصية هنا واضحة .. و هي لا تنسحب إلا على مَنْ كُن مثلهن من نساء الأمة .. و مَنْ كن في مثل ظروفهن ..
و الكلام الآخر السخيف الذي يرفض الدولة الإسلامية لأنها دولة دينية .. لا يفهم سر قوة حِكمة أبي بكر و عمر بن الخطاب – و هم السادة و المَثَل – حينما يقول الواحد منهما صبيحة بيعته :
" إن أصبت فأعينوني ، و إن أخطأت فقوموني " .
لا عِصمة لحاكم إذن .. و لا حُكم إلهياً في الإسلام .. و إنما هو حُكم مدني ديمقراطي .. يخطئ صاحبه و يُراجَع .
و قولهم : إن الإسلام يقف سداً منيعاً أمام اجتهاد العقل بمقولته الشهيرة : لا اجتهاد مع النَص .. و ما أكثر النصوص .. بل القرآن كله نصوص ..
أقول لهم :
لا يوجد في القرآن نَص أكثر تحديداً و صرامة من قطع يد السارق .. و قد جاء هذا النَص في القرآن مُطلَقاً لا استثناء فيه :
{ وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ( المائدة - 38 )
و مع ذلك فقد اجتهد النبي – عليه الصلاة و السلام – في فهم النَص ، فلم يطبقه في الحروب و اجتهد فيه عمر بن الخطاب .. فلم يطبقه في عام المجاعة ..
و هي استثناءات لم تَرِد في القرآن .. فضربَا بذلك المَثَل على جواز الإجتهاد ، و جواز إعمال العقل حتى في نَص من نصوص الشريعة .. فما بال النصوص الأخرى التي لا تَمِس حُكماً أو عِبادة ؟!
أما عن حكاية الفن .. و التناقض الذي خلقوه بين الفن و الدين ليجعلوا من الإسلام عدواً للجمال .. فإنني أقول :
حتى الشِعر و الشعراء الذين قال عنهم القرآن :
{ وَ الشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } ( الشعراء 224: 226 )
عاد فاستثنى قائلاً :
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ( الشعراء - 227 )
و ينطبق هذا على الفنون كلها .. فهي جميعاً تخضع للقاعدة نفسها .. حسنها حَسَن .. و قبيحها قبيح .. كل ما يدعو منها للخير هو فَنْ حَسَن ..
و كل ما يدعو للفساد و الإفساد هو فن قبيح ..
و هي قاعدة يطبقونها حتى في الغرب .. فهم يقولون عن كثير من الأعمال الفنية إنها رديئة و هابطة ..
و الفن الرديء عندهم متَهَم ، كما هو في كل مكان .. و المعركة مستمرة .
و لكننا في حاجة إلى كتيبة تجدِد الدين و تُقاتل خصومه بأسلحة العصر ..
و ليس بفتَاوَى ألف سنة مضَت .. فالإسلام السياسي هو إسلام ينازع الآخرين سلطاتهم ..
و هو بطبيعته يريد أرضاً .. و الفكر الإسلامي لا يريد أن يحكُم .. بل يريد أن يُحرِر ..
يريد أن يحرر أرضه المغتصبة .. و يريد أن يحرر عقولاً قام الآخرون بغسلها و تغريبها ..
و يُرِد أن يسترد أسرته و بيته .. بالكلمة الطيبة و بالحُجة و البينّة .. و ليس بتفجير الطائرات ..
و خطف الرهائن بالسياسة .. لا بالحروب ..
بالحوار الحضاري .. لا بالإشتباك العسكري .. و لكنهم لن يعطوا الفرصة لهذا الحوار الحضاري ..
و هم ينتظرون سقطة من زعامة متخلفة .. و يتعللون بصيحة عنف يصرخ بها منبر ضال ، أو عربة ملغومة يفجرها عميل .. ثم يتطوع عميل آخر ليقول إنها من عمل الجهاد الإسلامي ، أو " شباب محمد " .. أو " حزب الله " .. ليثيروا بها ثائرة الأبيض و الأحمر و الأصفر على الإسلام و أهله .
و لكن أهل العلم يعلمون أن العدوان مبيت منذ عشرات السنين منذ سقوط الخلافة العثمانية .. و منذ وعد بلفور ، و تهجير مطاريد اليهود من أقطار العالَم و جمعهم في إسرائيل ، و إقامة الترسانة النووية و الكيميائية و الميكروبية في داخل القلعة الإسرائيلية .. و تحطيم أي سلاح عربي منافس .
هم يخططون من قديم لهذا اليوم و المعركة مستمرة .
و سوف تستمر بطول ما بقي من زمان إلى يوم الدين .. و لن تكون معركة سهلة .
و طوبَى لهم .. مَنْ كانوا من أبطالِها !
د. مصطفى محمود . .
ليست هناك تعليقات: