مساحة إعلانية

شمس الحرية تنشر ..دراويش الفكر ...

عاطف عبدالعزيز عتمان أبريل 23, 2013


تصلني أحياناً من القراء تعليقات جادة و تساؤلات حول ما أكتبه .. و البعض يلتقط عبارات من كتب قديمة صدرت لي منذ ثلاثين عاماً محاولاً أن يُشهِد الناس .. كيف كنت منذ 35 عاماً كثير الشـك ، ثم أصبحـت مؤمنـاً .. !

يا له من تناقض و جريمـة لا تُغتَفَر لمُفَكِّر .. !
و يبدو أن المُفَكِّر الأمثل عندهم هو قطعة رخام لا تنتقل من مكانها ، أو مستنقع آسِن لا يتجدد ماؤهُ ، أو حياة خاملة راكدة آلية لا تتطوَر !

و يتصور الواحد منهم الفضيلة و الذِمَّة في أن يكتشف الكاتب خطأه فلا يصححه و لا يرجع عنه .

و يتصور أن الكمال في العجرفة الفكرية ، و الجمود و التعصب ، و الثبات .. و لو على الخطأ ( مادام هذا الخطأ في صالحهم ! ) .

و لو كنت مؤمناً تحولت إلى الإلحاد لأخذوني بالأحضان .. و لقالوا : هذا هو المفكر الشريف بحق .. هذا هو رائد النقد الذاتي !

و لكن لما كان نقدنا لذواتنا على غير هواهم ، أصابهم عمَى الألوان ، فرأوا الأبيض أسود ، و رأوا الفضيلة رذيلة ، و الذِمّة خيانة .

و لقد حارب خالد بن الوليد ضد الإسلام بشراسة ، و أنزل الهزيمة بالمسلمين في " أُحُد " .. ثم آمن و حمل لواء الدعوة و أصبح سيف الله المسلول ..
فلَم يقُل أحَد إنه رجل متناقِض بلا مبدأ .

و حارب عمر بن الخطاب الدعوة الإسلامية في بدايتها بضراوة .. ثم اعتنق نفس الدين الذي سبه و سفهه و حاربه .. فلم يشُك أحد في إيمانه ، و لا في صدقه و لا في ذمته .

و الإنسان في شبابه مندفع بطبيعته .. يؤمن بالساذج البسيط الواضح الملموس أمامه ..
و لهذا فهو يستريح إلى المادية و الفكر المادي ، لأنها لا تطالبه بشيء غير الموجود أمامه ..
فهي تبدأ من القريب المحسوس و لا تتجاوزه ، و لا تُجهِد الذهن استخلاصاً للحكمه من ورائه .. بل إنها لا تعتقد في وجود حكمه .. لا شيء سِوَى المادة ، التي تتطور تلقائياً بقوانينها الجدلية الخاصة .

و المفكر المادي لا يحاول حتى أن يسأل نفسه : مَنْ الذي وضع في المادة قوانينها الجدلية هذه ؟!
و هو نفسه غارق في الغيبيات إلى أذنيه !

بل إن العِلم نفسه – الذي يتشدق به و يحتكم إليه – غارق في الغيبيات هو الآخر .

العِلم يتكلم عن الإلكترون على أنه حقيقة .. و لم يرَ أحد الإلكترون .. و لا نعلم عن الإلكترون سوى آثاره .. أما الإلكترون ذاته فهو غيب .

و بالمثل : الموجة اللاسلكية .. لا نعلم عنها إلا آثارها في عمود الإرسال و جهاز الإستقبال .. لم ير أحد تلك الموجة الأثيرية .. و لم يعرف أحد كنهها .

بل الكهرباء ذاتها هي الأخرى طاقة لا شك فيها و مع ذلك فهي مجهولة الهوية تماماً .. و لا نعرف عنها إلا مجموعة أثارها الظاهرة من حرارة إلى ضوء إلى حركة إلى مغناطيسية .

فإذا قلنا لهم : إن الله بالمثل عرفناه بآثاره ، و أن " هويته " غيب .. لم يعجبهم كلامنا !

بل إن المفكر المادي يقول في جرأة عجيبة : 
" في البدء كانت المادة ، ثم تطورت المادة إلى كافة صور الحياة و الفكر " .. و كأنه كان موجوداً لحظة بداية الخلق ، متربعاً في كرسي بلكون يتفرج على ميلاد الدنيا !!
هو يتكلم عن غيب ، و يبدأ من غيب .. و لا يملك إلا افتراضات و احتمالات و نظريات .. ثم يتهمنا نحن بالغيبية !

و هؤلاء هم " دراويش " المادية ، لا وسيلة لإقناعهم ! لأنهم لا يريدون اقتناعاً .. و إنما هم اختاروا الجمود العقائدي و تشنجوا عليه ، و استراحوا إلى ما فيه من تبسيط مُخِل ، و تلخيص ساذج للحقائق الكونية .
و ليس أبعث للراحة من اعتقاد الإنسان أنه لا مسئولية هناك ، و لا بعث ، و لا حساب .. و أن له أن يفعل ما يشاء .. لا رقيب عليه و لا حسيب سوى البوليس و المخابرات !

و مثل هذه العقيدة المادية أقرب إلى قلب بعض الشباب المندفِع الذي يريد أن ينطلق على هواه .. بلا ضوابط ، و بلا مساءلة .

و ليس صحيحاً أن الفكر الإلحادي المادي هو الذي أعطانا حياتنا المتقدمة .. بما فيها من قطارات و عربات و طائرات و صواريخ و راديو و تليفزيون ..
فهذه الأشياء هي عطاء العلم .. و العلم تراث متاح للكل .. و لا مذهب له يطلبه رجل الدين كما يطلبه رجل الفكر من يمين و يسار .

كان العلم يرفع راياته في مصر الفرعونية الوثنية كما كان يرفع راياته في صدر الإسلام .
العلم تراث بشري لا يستطيع أحد أن يدَّعي ملكيته ، و ليس صحيحاً أن الدين يناقض العلم .

و ديننا يأمر بالعِلم في أول آية من القرآن : " اقرأ " .

أمر صريح بالعِلم و التعليم .. في أول حرف نزلت به تعاليمنا السماوية ..

و العلماء عندنا هم ورثة الأنبياء ، و هم في القرآن في درجة الملائكة : { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العِلم .. 18 } ( آل عمران )

و الذي يتصور تناقضاً بين الدين و العِلم .. لا يعرف ما الدين .. و لا ما العِلم ..
و إنما هو يريد أن يختلِق لنفسه مبرراً للرفض .. و ما أسهل الرفض !


مقال .. دراويش الفِكر
من كتاب / تأملات في دنيا الله
مشاركة
مواضيع مقترحة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ واحة الأريام